الملحق الثقافي- عمار النعمة:
السؤال قديم جديد ليس وليد اليوم، ولن تكون هناك إجابة قاطعة عنه، كل جيل من الكتاب والمبدعين له رأيه في ذلك، والكثير من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية كانت وستبقى تطرح هذا السؤال، الميادين الثقافية طرحته على عدد كبير من الكتّاب والمبدعين، وتابعت دارين حوماني الاستفتاء، وقدمت مادة غنية وممتازة، منها نقتطف بعض الإجابات التي قدمها الكتّاب العرب.
ما جدوى الكتابة الأدبية في أزمنة الخراب؟ طرحت الميادين الثقافية هذا السؤال على شعراء وكُتّاب من دول عربية.. وهذه كانت أجوبتهم.
«يضع حَجَراً فوق الآخر/إنه لا يبني بيتاً/ كلمات/ كلمات مُنفرِدة/ ليست قصيدة»، هي القصيدة رقم 24 من مجموعة يانيس ريتسوس الشعرية الأخيرة قبل رحيله. إنه يكتب ولا يدري إذا كانت كلماته ستؤلِّف قصيدة أو ستبني بيتاً أو سيكون لها أثر. يريد فقط أن يُخرج الأسى الذي في داخله من الأشياء والحياة والوجود.
وفي وقتٍ فَقَدَ الوقت معناه، وتكاثر الشعور بالعدمية واللاجدوى نجد كتَّاباً يكتبون من دون أن يعرفوا لماذا يواصلون فعل ذلك؟ قد يكون فعلاً مُرتبطاً بحمولة الحياة الزائِدة في ذواتهم، وقد يقفون بمواجهة الموت، موت الأدب، ويواجهون الخيبات والتضييق والشِللية التي حرمت الأدب معناه.
أمام كل الوقائع التي نحياها يطرح بعضنا سؤالاً قد لا يبدو جديداً، لكنه دائم الحضور في ظلّ الأزمات الكُبرى التي تختبر البشرية فظاعاتها. السؤال يقول: ما جدوى الكتابة الأدبية في أزمنة الخراب؟ هل ما زال الأدب قادِراً ومؤثّراً في التغيير كما في السابق؟
هذه الأسئلة وسواها نطرحها على أنفسنا دائماً، ومن المكان الذي لم يعد فيه مَن يحتفي حقيقةً بالإبداع، فطرحناها في الميادين الثقافية على عددٍ من الشعراء والكُتَّاب العرب، وكان لكلّ منهم رؤيته عن جدوى الكتابة وما تبقَّى من دورها. وهذه كانت أجوبتهم.
خالد المعالي
يُخبرنا الشاعر والناشِر العراقي خالد المعالي عن الكتابة بوصفها فعلاً شخصياً بَحْتاً قائلاً: «الكتابة بالنسبة إلى الكاتب لا علاقة لها بالتأثير الحاصل الذي يحصل الآن البارحة أو الآن أو غداً، الكتابة بالنسبة إلى الكاتب شيء مصيري وشخصي تماماً. الكاتب لا ينتظر أن يرى آثار كتاباته على القُرَّاء أو في المجتمع، إنه يؤدّي رسالته ككاتبٍ لا أكثر.. نكتب الشعر لأننا نعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة للتعبير عمّا هو شخصي وعمّا نريد أن نقوله الآن، عما نريد أن نُغنّيه، أن نتركه كوصيّةٍ، كتلك الرسالة في القنينة المُغْلَقة التي يتركها البحَّار حينما تضيق به السُبُل ويشعر أنه مواجه الموت لا محالة».
بحيث لا نشعر بأن المُثقَّف قد نجا من فكرة الاستيعاب السُلطوي لصوته».
أسعد الجبوري
ومن العراق أيضاً يُفكِّك الروائي والشاعر أسعد الجبوري الحكاية الأدبية العربية اليوم: «يمكن تحويل الشعر إلى طاقة، بمعزل عن تحرير أدوات اللغة، وجعلها أكثر قابلية لتصفية خصوم المُخيّلة. كل ذلك لا يحدث قبل رَدْع التشابُه والاستنساخ وعمليات التحايُل على النصوص الأمّ. فالشعرُ ليس سريراً للنوم، بل هو مجالٌ مغناطيسي لتكوين العلاقات ما بين مُغْرَمي اللعب بكُرات النصوص. كذلك الرواية، فهي لا تعني تراكُم معارِف وتزايُد خبرات في التخيّل، بقَدْر ما على الروائي أن يكون «مكنسيان» يمتلك مجموعة آلات تستطيع التحكّم بتفكيك براغي الأمراض الجوانيّة المُستعصية للوجود البشري. وإذا كانت الكتابة نوعاً من الشَغَف أو الاحتراق الوجداني في أغلب تجلّيات العمل الأدبي، فإنها اليوم لم تعثُرعلى ما يمكن أن تحفر أفكارها عليه، لا وَرَقاً ولا جلوداً ولا صخوراً كما كانت العادة في العصر المسماري. كتابات الساعة الراهِنة مسامير تكاد تُدَقّ بالفراغ، وليس لها من الأصوات إلا ما يؤتمن على ذلك الصوت الذي تنطق به النملة، عِلماً أن الأخيرة تنتظم في طوابير عمل لبناء حياة، مثلما تعتمد أسلوباً أمنياً للحفاظ على ما تؤلِّفه في بيوتها تحت الأرض أو فوق التُراب».
ويُكْمِل الجبوري: «راهناً، لم تعد الأسئلة النارية أو الحادَّة عن جدوى الآداب والفنون في حياة العامة، تُثير الصَخَب والاهتمام، لا في خلايا الصحافة والإعلام، ولا عند أغلب البشر ممَّن سممَّت الحروب دماءهم أو أفنتْ الأوبئةُ لحومَهم مُضافاً إليها ثعابين الفاقة وذئاب العَوَز وسياط طُغيان السلطات ولا مُبالاتها بطبقات الشعوب التي أصبحت طبقتين: ذهبية وطينية بعد اختفاء الطبقة اللبنية الوسطى.
ظروف المجتمعات العربية الآن، جعلت المُفاضلة بين مائدتي الأدب والطعام أمراً أوّلياً وحاسِماً إلى حدٍّ ما. مُفاضلة موجِعة وحسَّاسة بين أشكال الحروف وحبَّات القمح، وقَدَّمت بالتالي الرغيف على الكتاب كمسألةٍ مفروغٍ منها على صُعُد يوميات تستمد طاقتها من القمح والشمس أولاً، ومن الطحين والماء ثانياً، ومن الخبز والهواء قبل أيّ شيء آخر».
مصطفى البلكي
تتوافق وجهة نظر الكاتب المصري مصطفى البلكي مع أسعد الجبوري في قراءة المشهد الجوائزي العربي وهو يُنقِّب داخل لحظة الكتابة التي تختلف من كاتبٍ إلى آخر: «لماذا أكتب؟ سؤال تتعدَّد إجاباته، وبالنسبة لي هي شُرفة يطلّ منها الروائي ليطلب خلاصه، والخلاص هنا، قد يكون من خلال صناعة السعادة لنفسه أولاً، فحينما ينعزل المُبْدِع، يحذف ما حوله، ويُغْرِق نفسه في عالمٍ يوجده أو عالمٍ اختاره ليكتبه. وفي زمن الوَجع، يصبح على الروائي مهّمة خَلْق ما يناسبه، ولا تكون الرواية التي يُقدِّمها ناجحة إلا من خلال طريقته، أي لا يهمّ نقل ما يدور، بل نقل كيف حدث ما حدث، من خلال خَلْق حياة تُخالف الواقع في صورته، وبناء عالِم ثالث نِتاج تزاوج عالم الخيال وعالم الواقع. لحظة كَسْر الخط الفاصل هي ذاتها لحظة إدراك المُبْدِع بأن اللحظة هي لحظة الولادة، وكما قال أمبرتو إيكو «على المُبْدِع واجب اختراع أكاذيب جيّدة»، هم لا يفعلون شيئاً يُخالِف مَن تسبَّب في وجود ما نعيشه، لكنهم أصدق في نيَّة إعادة تشكيل الواقع في صورةٍ يحلمون بها، ورغم تلك الصورة التي أراها، أو التي ترسِّخ لنفسها، إلا أن الروائيين الآن في مرحلة هجرة إلى الماضي، سنجد أن الجميع، أو معظمهم، هاجر إلى الخلف، ليس طمعاً في النظر في التاريخ ومعرفة العِبرة وقراءة الحاضر من خلاله، بل لأنه أصبح المُفتاح السحري لأغلب الجوائز، فالنهايات غالباً معروفة، والنهايات المُستقيمة لا تُتْعِب الكاتب ولا القارئ، لكنها قد تكون غريبة لأنها جاءت طبقاً لقواعد وقتها».
ويشعر البلكي بالأسى لأنه يُقيم في هذا الزمن، حيث لا تقدير للعمل الأدبي ولا معنى للقضايا الكُبرى: «كلما عدت إلى الوراء أجدني أحسد الروَّاد، لقد وجدوا في زمن الصراعات والكفاح والبحث عن هويةٍ ثقافيةٍ تحميهم، حياة أخرى، كانت سنداً لهم وهم ينهلون من ثقافات الشعوب التي سبقتنا، هم أوجدوا القضايا، فحصلوا على سَبْقِ أفضلية نشر النور، أعطوا للحياة قيمة، تلك القيمة وجدناها ولم نشارك في تكوينها، وهذه القيمة أظنّ أنها هي التي يبحث عنها كل مُبْدِع في زمنٍ لم يعد للقضايا الكُبرى أيّ وجود في الكتابات، سواء في حياة الفريق الذي هاجر إلى الماضي، أم في حياة مَن هاجر إلى الداخل، وعكف على نفسه، يُعيد تدوير ما فيها، وما يستطيع أن يطوِّعه ليكتب حكاياتٍ ملأى بالتشويق، وينسى أنه لكي يوجِد الجديد عليه أن يفهم المُعطيات التي أوجدت الواقع الذي ينتمي إليه».
وينتهي مصطفى البلكي مُتفائلاً: «ستظلّ الكلمة السلاح الأقوى القادِر على تغيير العقول، وزَرْع المفاهيم، وفي هذا الزمان، تتزايد نسبة القراءة، ربما في مجالات بعينها كروايات الرُعب، لدى شرائح بعينها، وهي قفزةٌ إلى الأمام، يجب أن يتمَّ البناء عليها من خلال التعامُل مع الكتاب من باب أنه جزء مهم في تنمية الإنسان».
لسعد بن حسين
من جهته يرى التونسي لسعد بن حسين أن سنة 2020 ستبقى علامة فارِقة في التاريخ الإنساني، وخاصة في التاريخ العربي الحديث، «إلى جانب جائِحة كورونا التي بثَّت الرُعب في القلوب، وحكمت على الناس بلزوم بيوتهم والحَذَر من الاختلاط، وأخذت ما أخذت من الأحباب والأصحاب، شهدت البلاد العربية تدهوراً على جميع المُستويات، فسياسياً عمَّ التطرّف والإرهاب واللّهث وراء التطبيع مع الكيان الصهيوني، أما اجتماعياً، فالعرب يعيشون أسوأ مرحلة في تاريخهم من تفشٍّ للأمراض والجوع وهروب من الأوطان (العرب رُحَّل العصر الحديث) وارتفاع منسوب الجريمة. أما اقتصادياً فقد تحوَّلت السلطات العربية إلى كائناتٍ مُتسوِّلةٍ لا تقدر على تسيير شؤونها من دون اللجوء الى مُساعدات دول غربية أو مؤسَّسات نقدية عالمية. إنه الخراب الشامل، وإذا أضفنا إليه التدهور الذي نشهده في مجال القِيَم والمبادئ (إذا حلَّ البلاء زال الحياء)، فإننا لا يمكن إلا أن نكون مُتشائمين من المستقبل وعلى جميع الأصعدة، بما فيها الثقافي والأدبي».
ويتابع بن حسين بكثيرٍ من الحُزن: «نسبة طاغية من الشعوب العربية لا تمتلك ثمن تأمين قوت يومها، فكيف نُطالبها بشراء الكُتُب أو المُنتجات الإبداعية؟ وحكومات فضح كورونا هشاشة نظامها الصحّي وتردّي مؤسَّساتها التربوية هل ستُفكِّر في الفنون والآداب؟».
ورغم أن المشهد العام «حالِك الظلام» برأي بن حسين إلا أنه يعتقد أن تبقى للمُبْدعين مساحة للأمل، حتى وإنْ كان مُجرَّد حُلم، «فالحروب السابقة والكوارث الطبيعية والأوبئة والأزمات الاقتصادية لم تمنع المُبْدعين من إنتاج أعمال أدبية وفنية خالِدة إلى اليوم. الفرق البسيط الذي قد يتغيَّر في عصرنا الحديث أنه أمام الفورة الرقمية وتنامي سُلطة الصورة ستسعى الفنون بمختلف مشاربها إلى استغلال هذه الوسيلة الجديدة للترويج لمضامينها، وما يُنْشَر اليوم في الأنترنت وشاشات التلفزيونات والحواسيب والألواح الإلكترونية في حاجةٍ إلى كُتَّاب ومُصمِّمين ورسَّامين وموسيقيين وغيرهم من مُبدعي الجمال».
ويؤكِّد لسعد بن حسين أن الفنون والآداب تتأثَّر بالواقع وقد تَضْمُر أو يَخْفُت بريقها ولكنها أبداً لن تموت، «لن تموت لأنها تبقى القلعة الأخيرة للدفاع عن القِيَم الإنسانية النبيلة القلعة الأخيرة لبثّ الجمال في فضاءٍ يتصحَّر، القلعة الوحيدة لبثّ الحبّ زمن الكراهية، ولبعث الأمل زمن اليأس ولترميم المعنويات زمن الإحباط. المُبْدِع حيثما وجِدَ ومهما كان عرقه أو جنسه لا يمكن أن يتوقَّف عن الحُلم، وعن الإبداع، لأنه ببساطةٍ لا يمكن أن يكون انتحارياً ويتخلَّى عن حياته، لأن الفن حياته، ولأن الفن هو مانِح الأمل للآخرين للإنسانية في لحظات بؤسِها ويأسِها في لحظات شكِّها وحُزنها».
سرجون كرم
«لقد وصل العالم العربيّ، بالنسبة لي، في خرابه بيديه هو وتآمُره على شعوبه وعلى ذاته والذات الحضاريّة بشكلٍ حصريّ إلى محطّةٍ أضحى من المُستحيل بعدها استشراف أيّ نقطة تحوّل لديه تنقله على الأقلّ إلى الحاضر، لا أقول المستقبل» يقول سرجون كرم ويُضيف: «لدرجةٍ أنّ المرء يطرح السؤال الخفيّ المُخْجِل على نفسه: ما الجدوى في الأساس من هذا العالم الذي يشيد بإنجازاته قبل ألف ومئتي عام على غرار الشعر المنحول ويُلقي بمسؤوليّة خرابه على الاستعمار وأعداء الأمَّة، ولا نرى منه سوى كيانات تفترس أبناءها وتخضعهم بسيف الدين والطائفة والتقاليد».
ويرى كرم أنّ السؤال عن هذه الجدوى لا ينطبق على كتابة الشعر في زمن الخراب، «إن تأمّلنا النصوص الدينيّة والحكميّة والنصوص الإصلاحيّة الاجتماعيّة من زاويةٍ أدبية، نجد أن أغلبيّتها نشأت في زمن الأزمات. فالأزمة تجعل الإنسان عموماً، والإنتاج الإبداعيّ خصوصاً، يُركِّز على الجوهريّ في الحياة. فكلّ صياغة أدبيّة وجماليّة من صورة وفكرة ولوحة ومعزوفة وحكمة شعريّة وحتى دينيّة شعريّة ما هي إلا نوع من رسالة من المستقبل تتحاور مع الخوف لتتخطَّاه وتحاول رَسْم العالم الجميل الذي تتصوّره علَّه يصبح حقيقة قائماً بذاته. الكتابة فعلُ عَتْق وتحرّر وشفاء، فهي تُشْعرِك من خلال تشغيل مُحرِّكات الرؤيا والإنتاج عبر اللغة بينابيع القوَّة الكامِنة في كل إنسان واستشعار الطاقة الإيجابيّة والتعبير عنها لتبقى ذات استمراريّة في الحياة، وبالتالي التوصّل إلى استقرار هويّة الذات والمُحيط».لا سلاح لدى الشُعراء والأُدباء غير الكلمات، يحاولون بها وَقْف هذا الجَرْف، فهل يتخلُّون عن سلاحهم ويستسلمون؟ لا. الشعر والأدب عموماً هما حُلْم تغيير هذا العالم، وهذا الحُلم قد لا يكون سوى وَهْم. هو وَهْم، ولكن علينا أن نحتفظ بهذا الوَهْم، وإلا فماذا سيبقى لنا؟!».غيابنا إذاً بإمضائنا أو بالأحرى ببصماتنا».
العدد 1155 – 15-8-2023