الملحق الثقافي- فاتن دعبول:
كثيرما يتبادر إلى الذهن سؤال هام، لمن نكتب ولماذا نكتب وهل حقاً تلقى هذه الكتابة آذناً صاغية،أم تذهب أصواتنا أدراج الرياح دون أن تجد أي صدى يمكن أن يجود عليها بوقفة جادة وعين ثاقبة تحاول أن تغوص في المنتج، لتخرج منه بتوصيات تحرك الراكد وتنعش النفس بما يحقق لها التطور والنمو، أو كما قال الأديب سعد الله ونوس أن تكون» الكتابة فعل حياة وقهر للموت». جدوى الكتابة ورجع الصدى، سؤال توجهنا به إلى عدد من الأدباء والمثقفين والمعنيين بالشأن الثقافي فكان الرد متبايناً ولكن رغم قسوة الظروف والتحديات كان القاسم المشترك بينهم هو أن الكلمة ستبقى منارة نهتدي بنورها وننشر عبق عبيرها في العالم جميعه. فعل تحرر وانعتاق: يقول الأديب رياض طبرة: السؤال ضروري وملح عن جدوى الكتابة بعد هذا العزوف عن كلّ ما هو ثقافي لصالح القضايا المعيشية الملحة والكم الهائل من المحبطات، لذلك أرى أن الكتابة اليوم وإن بدت بلا جدوى إلا أنها فعل نبيل لابدّ من اقترافه بوفاء وإحساس عال بالمسؤولية . كثيرون يكتبون ليوم الناس هذا ومن أجلهم لكن الكتابة ليست إلا فعلا من أفعال التفاؤل بالغد المأمول ،ربما استفادت أجيال وأجيال مما نكتب كما استفدنا ممن سبقونا، وان كان لابدّ من تصحيح واقع الجدوى لابدّ من تعزيز المشهد الثقافي العام بالجديد الوفي الأمين على عقل وقلب القاريء القاريء المتلهف للكلمة الجريئة الواضحة التي تعكس ايمان ورؤية المثقف لما يحيط به وتفسير كل ما حولنا سعياً وراء تغييره نحو الأفضل نعرف وندرك ان الكتابة فعل تحرر وانعتاق من الخوف قبل أن تكون أي أمر آخر نبض القلوب: ويرى الأديب صبحي سعيد أن: الكتابة والقراء هما دواء و غذاء الإنسان المتحضر…وقد بدأت كتابة الإنسان الأول على الصخور والجدران بواسطة الازاميل..والكتابات ليست كلها محصورة في صنف واحد ومحصورة في الكتاب..بل أهم الكتابات هي كتابات الطبيعة على الأرض..وكتابات الفلاح في حقله..فهي غذاء فكري وروحي ونفسي..وكذلك هي غذاء للجسم ومن أهم أنواع الغذاء وأكثره وأصدقه فائدة.. ويجب ألا ننسى ان ليس كل قارئ بقارئ ولا كل كاتب بكاتب..والكتابات معادن وتتفاوت قيمها من معدن الى معدن ومن كاتب الى كاتب..فالنحلة تكتب أيضاً..اذ تأخذ حبرها من رحيق الأزهار لتقدم مادة للغذاء و الدواء..والصحة العقلية والنفسية..وكذلك الأديب تأخذ قريحته حبرها من أزهار الحياة التي تنمو من تجاربها ومن مساعي الإنسان في ارتقائه درجات التطور الحضاري فكراً وجمالاً وفائدة… وكما قال الشاعر : إن بعضاً من القريض هذاء( ليس شيئاً وبعضه احكام منه ما يجلب البراعة والجمال) ومنه ما يجلب البرسام.. وقليل من الناس يميز بين الغذاء الروحي الصحيح والمفيد وبين الغذاء الذي لا يغني ولا يفيد بل قد يضر..وكما هناك بشر يميزون بين الجواهر والحصى ،هناك بشر أصحاب خبرة وذوق رفيع يميزون بين كتابة تنتمي إلى الجواهر وبين كتابة تنتمي إلى الحصى.. والإنسان لا يستغني عن الكتابة الغنية بالفكر والروح الجمالية الراقية وبين كتابة فقيرة بفكرها ومبادئها السامية ..
والكاتب والشاعر صاحب الذوق الرفيع، يميز بين كتابة حروفها من الجواهر واللآلئ؛ وبين كتابة جمعت حىوفها من الحصى … والقارئ الحصيف صاحب الذوق الرفيع يبحث عن الكتابة التي تعبر عن تجارب مهمة في الحياة ليعبروا عنها بحروف لا تقل قيمة من حروف الذهب.. ولا يستغني القارئ الذكي عن هذه الكتابات..لانها أهم مصدر من مصادر غذائه الروحي والجمالي وهي كذلك آفاق حياته وحدائق روحه وفكره..ووجوده….مهما قست الظروف وعتت العقبات..فهل يمكن أن يستغني الإنسان عن غذائه وعن هوائه النقي لكي تستمر حياته..كذلك لا يستطيع أولا يقبل الانسان الواعي ان يحرم نفس من القراءة او من الكتابة اذا كانت قريحته نشطة وطموحة..فلا يرضى أن يتوقف عن السير باتجاه القمم التي تعبرعن طموحه وتطلعاته الجمالية والفكرية والأخلاقية فالكتابة والقراءة هي مرتبطة بنبض القلوب وبالقرائح التي ترفض التوقف عن الغناء تعبيراً عن آلامها وطموحاتها البشرية والحضارية. تفعيل الصحافة: ويتساءل الأديب حسام خضور: هل الكتابة مرتبطة بمنفعة ما؟ والجواب بلا شك: تتأثر الكتابة بالمنفعة المباشرة. لكن الكتابة، بذاتها، ليست مرتبطة بجدواها، ولنكون أكثر تحديداً، نقول :إن معظم أنواع الكتابة ليس مرتبطاً بالمنفعة التي يحققها. فالكاتب يكتب بدافع جواني في نفس الكاتب لا يجد له تفسيراً. الشاعر من هذا القبيل، ومثله القاص، والروائي، والباحث، والفيلسوف وغيرهم. شيء ما يدفع المرء إلى التعبير عما يعرفه ويعمل على إيصاله إلى الناس بالوسائل المتاحة كلها. لم يكتب البحتري: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتكلما. بقصد الحصول على مكافأة. كتب ذلك لأنه شاعر، ولأنه كتب ذلك فهو شاعر. ولم يكتب ابن خلدون مقدمته مقابل أجر ما، بل ليقول رأيه في العمران وأحوال البشر. في رأيي، هذه الأسئلة المتشائمة التي يطرحها هذا الملف مصدرها الصحافة المحلية التي تواجه مأزقاً شديداً سببه تقصيرها في القيام بدورها فعزف القراء عنها. وبالتالي على الصحافة في بلدنا أن تدرس مشكلاتها بعمق، وتحددها بدقة، وتعالجها بجدية لتستعيد دورها الفاعل في الشأن العام. لكنني ككاتب أدير مجلة ثقافية (مجلة جسور ثقافية) معنية بالترجمة، وأترجم وأزعم أنني أكتب القصة والرواية، فتقديري أن الأمر ينحو منحى آخر يعاكس ما انتهت إليه صحافتنا. في الصحافة الثقافية نقدم شيئاً من المعرفة التي تولد بذاتها متعة الحصول عليها، ونقدم المتعة الفنية والأدبية عبر اللوحة الفنية، وعبر مجموعة قصص وقصائد مترجمة من لغات عديدة.
في رأيي، الكتابة خارج الصحافة تنمو وتتطور بدليل ما يُنشر ورقياً وإلكترونياً وصوتياً عبر وزارة الثقافة، واتحاد الكتاب، ودور النشر الخاصة، وما يفد إلينا من العالم العربي ورقياً وإلكترونياً، بعيداً عما يصلنا باللغات الأجنبية اًيضاً. أما الكتابة في حقل القصة والرواية والشعر، فيعتمد جمهورها على قدرة استخدام الكاتب أو الشاعر لأدواته الفنية التي تمكّنه من معالجة موضوعاته فنياً. مضى ذلك الزمن الذي كانت فيه الصحيفة منتدى يرتاده الجميع ويجد فيه الجميع ضالته. ضاقت مساحة الصحيفة، لكن عدم الاهتمام بها، إذا صحّ القول، لا يعود إلى ضيق مساحتها، بل إلى ضيق اهتمامها بقضايا الناس. هل فتحت صحافتنا نلفّ مشكلة من المشكلات التي يعاني منها الناس وتابعته إلى نهاياته؟ وبالتالي، عندما تتحول مشكلات الناس إلى مجرد خبر في صحيفة، لن يتابعها القراء بالتأكيد. في الواقع، العزوف ليس عن الكتابة، بل عما يُكتَب. فالقراءة مرتبطة بالكتابة. لكن ثمة مسألة شديدة الصلة بالموضوع هي حرية الكاتب في معاجة موضوعاته، وتوفير المنابر الثقافية له. وبالتالي عندما تعطى وسائل التعبير لِمدّاحي الحكومة وكَتَبَة الموضوعات الإنشائية، ولا تتاح لغير هؤلاء، ستشكو الصحافة من عزوف القراء وجدوى الكتابة؛ لأنه، فعلاً، لا جدوى في هذه الكتابة التي اختارتها الصحافة وكرّستها منذ زمن طويل. ضرورة تمسك الأديب بقلمه: وترى الأديبة الروائية سوسن رضوان أن الكاتب يظن وبخاصة في فترة يفاعة تجربته الأدبية أنه سيغير الكون إلى الأفضل وأنه سيرسم حدود مدينته الفاضلة ، يحلم بسلام وبربيع دائم ، يعتقد أنه سيكون حارس حضارات خطت تاريخ البلاد ، لكن كرة الحرب الملتهبة فتحت أفواه النار عليه وعلى البلاد وجعلتهم يقفون في الزوايا العاتمة خوفاً وحذراً ، لكن الأديب اعتاد حلم الكتابة في كلّ الفصول حتى في عواصف الأيام المكفهرة ، لقد اعتاد الكتابة حتى لو بقيت دون جدوى للبعض ، كتب للحرب والسلام وعيني الحبيبة وخبز أمه الأسمر ، ربما بذلك يجد مايؤطرالزمان ويجعله كصورة على جدار الحلم يستذكر تفاصيل العمر كلما نظر إليها . كل مافي حياتنا هو مواد دسمة للكتابة ،من صغائر الأشياء إلى كبائرها ، حتى المشاعر ربما كانت النسغ الذي تحيا عليه شجرة الكتابة هذه . على الرغم من البعض الذين لايرون في عطاء الأدباء أي جدوى وماهو إلا مضيعة للوقت ، لكن رأيهم لايؤثر في الأديب الحقيقي إلا حماساً ودفعاً إلى الأمام . لابدّ من الاشادة في محفل كلامنا هذا إلى الكتّاب الذين يربطون السياسة والدين بأعمالهم الأدبية من خلال معتقداتهم وأفكار قد يتبنوها وربما يتملقونها .وعلى الضفة الأخرى نجد أدباء يسلطون الضوء بمنتهى اللطف على حالات اجتماعية تثير شهية العامة لقراءته فتصل في هذه الحال جدوى الكتابة إلى شاهقات الإعجاب ولكأن الأديب يلثم جراحاً فيشفيها ويسكب ماء الحياة على مشاعر خابية فيحييها… بالختام لابدّ للأديب أن يبقى متسلحاً بقلمه فهو الأقدرعلى التغيير والتواصل وبخاصة في زمن غزت فيه التكنلوجيا كل مناحي الحياة وصارت القراءة متاحة للجميع ..
العدد 1155 – 15-8-2023