لا تُطعم خبزاً

الملحق الثقافي- دلال ابراهيم:
عندما كنت صغيراً وأعلن أنني أريد أن أصبح كاتبا ، كان يقول لي بعضهم أن «الكتّاب لا يتقاضون رواتبهم إلا بعد موتهم». اليوم ، عادت هذه العبارة لتطاردني ولا أستطيع سوى التفكير بها . إنهم كتّاب عرفنا أعمالهم بعد وفاتهم.
كتّاب عاشوا حياة البؤس، لم يتذوقوا نكهة نجاح أعمالهم وهم على قيد الحياة، وبمماتهم عرفوا المجد والثروة. وليصبحوا أمثلة رائعة حول الطريقة التي يتم فيها، ربما تقدير عمل ما بطرق مختلفة من قبل النقاد أو خلال فترة قد لا تكون في بعض الأحيان على استعداد لتصفح قصص معينة.
كان ادغار آلان بو مصدر إلهام لأوسكار وايلد ومارك توين وآلاف الكتاب الذين اكتشفوه بعد وفاته. ويعتبر إلى جانب جول فيرن من مؤسسي رواية الخيال العلمي، وسيد القصص القصيرة الرائعة وحكايات الرعب. أشهر قصصه قاتمة ومروعة. وحياة المؤلف للأسف لم تكن أقل غموضاً. شهد وفاة والدته بمرض السل وهي في عمر 24 ، وقبل وفاتها بعام واحد، رحل والده المدمن على الكحول. وكان الشقيق لأخت معاقة ذهنياً. اختار زوجته وهي ابنة 13 عاماً، وتوفيت وهي في 24 من عمرها. أي أن الكاتب الشهير اليتيم عاش تحت ختم الرعب والغرابة. وغرق في معاقرة الخمر الوراثي على ما يبدو، وبالتالي فحياته لم تكن سوى سفر اكتئاب طويل، تطارده أحلاماً مزعجة وهلوسات مخدرة، لا تقل رعباً عن قصصه القصيرة. كان يروم من الكتابة تحقيق مصدر عيش له، بيد أن كلفتها كانت أكثر من الإفلاس ومشاكل الإدمان على الكحول، حيث فصول تمخضت عن بعض أفضل قصص الرعب في العالم. لم يقدم لنا بو قصصاً رائعة فحسب، بل قام بتحويل الأدب الخيالي من خلال تطعيمه بأجواء ومنظور لم يسبق له مثيل من قبل. وفي الوقت الذي بدأ العالم يمتدح أعماله، فارق الكاتب الحياة في عام 1849. في عام 1842 فتحت له قصيدته ( الغراب ) بوابة نحو الشهرة، لم تدم طويلاً، ففي الثالث من تشرين الأول 1849عثروا على بو في حالة من الجنون في شوارع بالتيمور، يرتدي اسمالاً ليست له. وحين وصل إلى المستشفى دخل في حالة سبات وتوفي بعدها بأربعة أيام. هل هو إفراط في تناول الكحول؟ أم وفاة نتيجة تزوير انتخابي؟ لا زال موته يكتنفه الغموض. وقد حاول الناقد والمؤلف روفوس ويلموت جريسوولد، عدو بو، تخريب شهرة الكاتب. ولكن أعاد الاعتبار له الشاعر الفرنسي بودلير، الذي ترجم العديد من نصوصه، الأمر الذي منح بو شهرة عالمية أكبر.
ومن المؤكد أن فرانك كافكا، الكاتب التشيكي ، وأحد أعظم المفكرين في مطلع القرن العشرين، لم يكن لديه أدنى فكرة أنه في يوم من الأيام سيطلق اسمه على الصفة التي تحمل نفس اسمه « الكافكية»، والتي للمفارقة تمثل ايضاً قصصه في الحياة. لم تكن الكتابة يوماً مصدراً لرزقه. بل كان ذلك الذي كان له التأثير الكبير على أدب القرن العشرين، يعمل نهاراً في شركة تأمين، وبعد ذلك في مصنع اميانت. وكتب كافكا كتابه ( الليل ) خلال ساعات راحته من العمل. وفيما عدا كتابه ( التحول ) وبعض القصص القصيرة، لم ينشر كافكا سوى القليل خلال حياته. ومعظم أعماله تركها غير مكتملة.
أصيب كافكا بمرض السل، الذي منعه عن الأكل، حيث توفي يتضور جوعاً وهو في الأربعين من عمره. وقبل وفاته طلب من صديقه ماكس برود احراق كل كتبه( دون تقييد ودون أن تُقرأ ) ولكن الأخير، الذي دفعه فضوله، لقراءة مخطوطة غير مكتملة لصديقه بعنوان ( المحاكمة ) وعلى الفور أضمر في ذهنه نشر هذا العمل بمجرد حذف الفصول غير المكتملة، بالإضافة إلى المخطوطات الأخرى. ربما يتقلب كافكا في قبره الآن، بسبب خيانة صديقه الذي لم يتحرم رغباته الأخيرة، أو لأنه لم يتمكن من إنهاء ونشر أعماله بنفسه حينما كان ثمة متسع من الوقت لديه.
أصيبت إميلي ديكنسون بصدمة في سن الرابعة عشرة بعد وفاة ابن عمها الصغير ، وعاشت بقية حياتها يطاردها شبح الموت. وكانت تعتبر هذه الشاعرة الأميركية شديدة الانطوائية ، غريبة الأطوار بين أقرانها في الحي ، ولم تكن تغادر منزل العائلة ، الواقع في أمهيرست ، ماساتشوستس.
خلال حياتها المنعزلة ، كتبت إميلي ديكنسون ما يقرب من ألفي قصيدة ، كُتبت جميعها على مظاريف ، وهي وسيلة أصلية بالتأكيد ، ولكنّها أعطت بالتالي معنى جديداً لشعرها المصمم بطريقة نائبة على هذا الوسيط الصغير المقيد. ولأنها كانت خجولة وتفتقر إلى التشجيع ، نشرت ديكنسون اثنتي عشرة قصيدة من شعرها فقط ، ومع ذلك فإن النسخ المنشورة لا تشبه الأصل. في الواقع، لأن ناشريها كانوا يعيدون صياغة قصائدها الطليعية وفقا للقواعد الأدبية في ذلك الوقت. فقط بعد وفاتها اكتشفت عائلتها بعض قصائد إميلي ونشرتها في شكلها الأصلي.
أما الروائية اميلي برونتي، كانت الطفلة الخامسة لعائلة فقيرة تعيش في شمال إنجلترا ، في قرية هاورث الصغيرة ، وهي الآن تعتبر واحدة من الروائيين المشهورين، ممن عاشوا حياة مأساوية. بدأت مأساتها بعد أشهر قليلة من ولادة أختها آن، حيث توفيت والدتها بسبب مرض السرطان.
في السادسة من عمرها أرسلها والدها إلى مدرسة داخلية مع شقيقاتها. وتوفيت شقيقاتها الأكبر إليزابيث وماري هناك بعد فترة. وتم طردهم من المدرسة وتعليمهم في المنزل ، وكانت الطفلات برونتي الباقيات، يمتلكن موهبة حية، وبدأن في ابتكار القصص. في عام 1846 ، قامت الأخوات الثلاث شارلوت وإميلي وآن بنشر مجموعة القصائد بشكل جماعي.باسم مستعارة -كورير- « إيليس وأكتون وبيل» . لسوء الحظ ، لم تثر المجموعة سوى القليل من الاهتمام. ومن ثم نشرت إميلي تحت اسمها المستعار الذكر روايتها اليتيمة مرتفعات ووئرنغ في عام 1847. وانقسم النقاد حول الرواية، وتوفيت إميلي بمرض السل عام 1848 – بعد شهر من وفاة شقيقتها – قبل أن ترى روايتها وقد حلقت إلى مصاف النجوم.
أما الكاتب التشيلي روبرتو بولانو، حققت روايته ( المباحث المتوحشة ) نجاحاَ كبيراً في آواخر أعوام التسعينات، ولكن انتشر اسم الكاتب عالمياً بعيد وفاته في عام 2003 إثر نشر بعض من أعماله الموزعة بين الشعر والرواية. وتقول الرواية أنه أوكل مهمة نشرها ضمن خمسة مجلدات لزوجته من أجل ضمان مصدر عيش لعائلته ، ولكن أخيراً تم نشرها ضمن مجلد واحد ،يعتبر من اكثر الكتب تأثيراً في القرن في أميركا اللاتينية ، وبعد وفاة الكاتب ارتفع عدد عقود نشر المجلد إلى خمسين عقداً وترجمت اعماله إلى 49 لغة .
وإن عرجنا إلى حالة الكاتب السويدي ستيج لارسون يمكننا أن نوصفه بمن لا حول ولا قوة لهم، هذا على أقل تقدير، ولا سيما بعيد وفاة صاحب سلسلة الميلينيوم، قبيل أيام قليلة من نشر أول رواية فيها- الرجال الذين لا يحبون النساء- وبعد تسليم روايته الثالثة من الملينيوم إلى الناشر- الملكة في قصر التيارات. أصبحت ملحمة الألفية ظاهرة وصل قيمة مبيعاتها إلى الملايين من الدولارات، لم يختلف على تقاسمها صديقته وعائلتة الكاتب فحسب، بل استمرت من بعده لغاية نشر السلسلة الرابعة من الملحمة، ولم ينله نصيب من ريع كتبه.
الكاتب الأرجنتيني سلفادور بينيسدرا عانى من حالات القلق واضطرابات ذهنية طوال حياته، حالة زادت بشكل كبير حينما تم رفض روايته الأولى- المترجم – حيث اعتبروا عمله ضخماً للغاية ومثقلاً. في عام 1996، بعد وفاته بأربعة أعوام رُشحت روايته لنيل جائزة Planète، حينها قرر أحد أعضاء لجنة التحكيم في المسابقة وهو الفيو غاندوفلو نشر روايته بمساعدة عائلة الكاتب، واعتبرت تلك الرواية أحد أعظم الروايات في الأدب الأرجنتيني.
في الثلاثين من عمرها، وفي الحادي عشر من شهر شباط، وضعت الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث رأسها في فرن الغاز، بعد أن أحكمت إغلاق كلّ ما يمكن أن يتسرب منه الغاز إلى حجرة صغارها على نفسها، لغاية أن لفظت أنفاسها. موت لا زال الأدب يرثيه حزناً، وعقب وفاتها بأعوام اكتشفوا أن الشاعرة سيلفيا بلاث كانت تعاني من الثنائية القطبية وهو مرض يبدد الشكوك حول وفاة أب لم تتمكن من التغلب عليه. بعد وفاتها ، نشر زوجها الشاعر تيد هيوز جميع أعمالها، باستثناء يوميات تحتوي على معلومات حول علاقتهما. وفي عام 1982 ، أصبحت سيلفيا بلاث أول شاعرة تحصل على جائزة بوليتزر بعد الوفاة. توفيت قبل أن تشهد انتشار أعمالها، والتي عانت خلال سنوات من المرض والمشاكل المادية.
وتطول القائمة لكتّاب لم تعرف أعمالهم الشهرة والمجد إلا بعد وفاتهم. 
                     

العدد 1156 –  22-8-2023  

آخر الأخبار
الأمم المتحدة تحذر من انعدام الأمن الغذائي في سوريا.. وخبير لـ" الثورة": الكلام غير دقيق The Hill: إدارة ترامب منقسمة حول الوجود العسكري الروسي في سوريا أهالٍ من حيي الأشرفيّة والشّيخ مقصود: الاتفاق منطلق لبناء الإنسان تحت راية الوطن نقل دمشق تستأنف عملها.. تحسينات في الإجراءات والتقنيات وتبسيط الإجراءات وتخفيض الرسوم نظراً للإقبال.. "أسواق الخير" باللاذقية تستمر بعروضها "التوعية وتمكين الذات" خطوة نحو حياة أفضل للسّيدات تساؤلات بالجملة حول فرض الرسوم الجمركية الأمريكية الخوذ البيضاء: 453 منطقة ملوثة بمخلّفات خطرة في سوريا تراكم القمامة في حي الوحدة بجرمانا يثير المخاوف من الأمراض والأوبئة رئيس وزراء ماليزيا يهنِّئ الرئيس الشرع بتشكيل الحكومة ويؤكِّد حرص بلاده على توطيد العلاقات مصير الاعتداءات على سوريا.. هل يحسمها لقاء ترامب نتنياهو غداً إعلام أميركي: إسرائيل تتوغل وتسرق أراض... Middle East Eye: أنقرة لا تريد صراعا مع إسرائيل في سوريا "كهرباء طرطوس".. متابعة الصيانة وإصلاح الشبكة واستقرارها إصلاح عطل محطة عين التنور لمياه الشرب بحمص علاوي لـ"الثورة": العقوبات الأميركية تعرقل المساعدات الأوروبية السّورية لحقوق الإنسان": الاعتداءات الإسرائيليّة على سوريا انتهاك للقانون الدّولي الإنساني سوريا تواجه شبكة معقدة من الضغوط الداخلية والخارجية "اليونيسيف": إغلاق 21 مركزاً صحياً في غزة نتيجة العدوان "ايكونوميست": سياسات ترامب الهوجاء تعصف بالاقتصاد العالمي وقفة احتجاجية في تونس تنديداً بالاعتداءات على غزة وسوريا واليمن