الملحق الثقافي- عدنان شاهين:
(أرجوحة العمر من اللاذقية إلى لندن )
لا بدّ من التسليم أوّلاً بأنّ السيرة الذاتية تبوح بها مرويّاتُها عبر بعدين زماني ومكاني، وفي هذين الإطارين يكون التوثيق تلخيصاً لحياةٍ يتسارع نبضها المتداخل مع عتبات النصّ، بدءاً من عهد الولدنة، بأسلوب سهل يتفوّق على سهولته بجمال لغته الأدبية، وسخريته المبطّنة أحياناً، ووفائه لمن يرى فيهم رافعةَ حلمه، وظلَّ مطمئناً إلى أنّه في الطريق لتحقيق ذلك الحلم، وقد أفصحت عنه الرواية وفي غير مكان من خلال نسيج روائي معشّق بالطرب الأصيل، وبقي ذلك ملازماً له عبر رحلته الطويلة بجغرافيتها القريبة والبعيدة.
والبداية الاعتيادية التي تشكّل القاسم المشترك لدى الكتّاب، إلّا أنّه استمرَّ مُحافظاً على قدرته في المتابعة، لأنّ الخيط الذي أمسك به مجرى الأحداث شُدَّ على وترٍ واحد، وإن تبدّلت الأمكنة، وتعدّدت السرديّات، لكنّ حياديّةَ الروائي، وتمسّكَه بإطار راق له، وكان من الصعب عليه أن يتخطّاه، لا سيّما وهاجس الأمانة في عرض اليوميّات هيْمن على شكل الكتابة لديه، والأمانة في نقل الحدث مهما كان صغيراً، لكأنّه هالةٌ لا يحقّ له التجرُّؤ على تهيئته ليناسب غرضاً تاريخيّاً بمنحى جماليّ، ديدنه الالتزام بحرفيّة المجريات، وتخطئة التحايل عليها؛ بغية التخريج الأمثل.
والعمل عتبات تظهر ما بعدها؛ بادئاً بعهد الولدنة، ومستذكراً صوت الحكواتي الصادح بسيرة عنترة أو الزير سالم في مقهى من مقاهي الشيخ ضاهر، وبعد صليل السيوف، وصهيل الخيول يدقّ الحماس المستمعين، فإذا بهم يهبّون واقفين، ويصرخون: (الله أكبر الله أكبر) ويعلّق ساخراً: (وطبعاً لا يتمخّض الأمر عن نسف عمود أثريّ في تدمر، أو بقر بطن حامل في الموصل، أو قطع رأس في الرقّة، ولا حتى ذبح دجاجة! ).
وما هذه الالتفاتة التي تضجّ بالاحتجاج سوى موقف كان من الممكن أن يضيف إلى الرواية نَفَساً يساهم في تشكيل أبعاد أبعد من مجرّد مرورها السريع.
ولما تنافست للفوز بثقة أهل المدينة قائمتا الحزب الوطنيّ والتي تضمّ أسعد هارون والدكتور نديم شومان وبدويّ الجبل، وحزب الشعب والتي تضمّ الدكتور أمين رويحة والدكتور وهيب الغانم ومحمد شوّاف، واكتفى الكاتب باستغراب انخراط أبيه على غير المتوقّع في صفوف المتحمّسين النشيطين للقائمة الثانية، وبذلك فوّت فرصةً ثمينة للتصعيد الروائي الذي كان من الممكن أن يضيف إليها آفاقاً تزيد في مدّها بصراع الأحداث تطلّعاً إلى ترسيخ الصورة التي طالما رنا إليها الحالمون بواقع أكثر سعادة بعيون قلوبهم.
غير أنّ الهوس بالوفاء كان حضوره بادياً للمربّين الذين تشبّثتْ بهم ذاكرتُه، وفي مقدّمتهم عزيز وفؤاد خوري وعباس جيفة وعبد الوهاب عيسى وجابر العلي ومنير الخيّر وعبد الله سركو وفؤاد الأسطة ومخمود وزياد عجان وغيرهم، ويستعيد ذكرى النشيد الحماسيّ (الله أكبر) وذلك قبل ظهور داعش في «التحريف والتخريف والتخوين»، مبدياً استهجان السلوك البدائي، ومستعيراً من البلاغة انزياحاتها بأسلوبه الذي تضيئه روحُه بإنسانيتها النبيلة، وما أقسى خيانات الذاكرة التي يراها من خيانات الجسد! مستذكراً قصيدة الشاعر ممدوح عدوان «عليك تتكئ الحياة» التي يرثي بها والده (والتي سمعتها منه في معهد العالم العربي في باريس وعلى رأسه كثير من الشعر، ثمّ في (ديوان الكوفة) في لندن وعلى رأسه قليل منه) فالإشارة إلى مرضه بقلّة شعر رأسه تفوّق بلاغيّ متوّج بنفْس تقيم وزناً للمشاعر.
ويُغلِق باب مرحلة الولدنة بنجاحه في البكالوريا، وفوزه بساعة أوميغا ثمينة من والده ليفتح باب:
مصر التي في خاطري
ما أصعبك عَ القلب يا يوم السفر! – في مصر بدأ باحترام النظام، ولكنّه سرعان ما تعلّم «الزعبرة» مُظهِراً أسلوبه الساخر بعد أن كان حريصاً على أن يبقى موارباً، من نفخ عبد الناصر في رأس معمّر القذافي بقوله: «إنّك تذكّرني بشبابي» القول الذي دوّخ القذافي.
وفي مصر بدت سخريته المبطّنة غالباً تزيح الستائر، ففي أثناء زيارة سارتر جامعة القاهرة، وإلقائه محاضرة في قاعة الاجتماعات الكبرى، وكانت ترافقه الكاتبة سيمون دي بوفوار الزوجة من دون زواج، وبقيت في الظلّ مثل أيّ زوجة عربيّة محجّبة من دون حجاب، وبعد توجهه إلى إسرائيل ليقبل دكتوراه فخريّة، وهو الرافض لجائزة نوبل، وعلى طريقة الكاتب في السخرية يحتجّ على موقفه من القضية الفلسطينية الذي لم يَرْقَ إلى موقفه من الثورة الجزائرية، وبطريقته اللافتة يورد: (بأنهّ تراجع عن نظرية الإلحاد على فراش الموت وفي حال تلفّظ بالشهادتين أو لم يفعل فله منّي هديّة اسم عبد الستّار).
وكان أوّل عهده بالحبّ مع (عالية) المصرية التي حدّثته عن فلسفتها في موضوع شديد الحساسية:(الحبّ هو أن تتبيّنَ عيوبَ من تحبّ، وتحبّه على الرغم منها) ومرّت مرحلة مصر، والدراسة في قصر العينيّ بسرعة ليبدأ دور (مسافر زاده الخيال) حاملاً شهادة جامعية في الطب، ووعداً بشرفه ألّا يرتكب جريمة ختان البنات، وتوجّه إلى المطار وهو يهتف: (وأنت يا قلبي حبيبك فين؟!) على أمل العودة.
وفي القسم الثالث (البرنيطة) المحرّمة
يودّع اللاذقية وقد لحق به بحرها الوفي، تصبغه زرقة من عينَي أمّه، وقد ظلّ يركض خلفه إلى مشارف بيروت التي اشترى من أحد مخازنها برنيطة سوداء استكمالاً للأناقة الإنجليزية، وفي مطار باريس كان مجدو بانتظاره الذي صادر البرنيطة حرصاً على سمعة العائلة، قبل مواصلة السفر إلى لندن، وقد خصّها بقسمين الرابع:
( قطّة في شتاء دَرَم) وكان حريصاً على ألّا ينسى ذكر تلقّيه رسالة من أبيه تتحدّث بروح معنويّة عالية عن حرب تشرين، وتطوُّع رامي في المقاومة الشعبية لحماية المدينة.
والقسم الخامس (بنات الأليتزادورة) وبالإضافة إلى مشاغله المهنية تعدّدت تجارب الحبّ، فما إن تنأى (تريفيا) حتى تأخذ مكانها (مولي) أمّا عالية فقد جنح بها الحنين إلى ما وراء المانش، لتعود بغير ما كانت تحلم به، وفاجأته (مولي) بأن الشرطة تسأل عنه: إن كان يصلّي، أو يصوم، وهل يتعاطف مع جبهة تحرير إيرلندا؟ ومدى اهتمامه بأخبار القضيّة الفلسطينية؟! وظلّ يعوم في بحر الحبّ، وبعد دخوله في كثير من التفاصيل يصل إلى قناعة بأنّ(مولي ما إلي) وأنا لست لها فيتمّ الانفصال بعد العَشَاء الأخير، وحديث النظرات الهاربة من بعضها.
وفي طريق جبليّ إلى كسب أُصيبت سيارة والده بحادث سرقت منه كلّ شيء في لحظة غادرة، الرجل الذي كان تعاطفنا معه يتجدّد عبر فصول الرواية.
وفي القسم السادس والأخير المعنون بـــ (صورة جميلة) يولد غرام جديد مع (لبنى) التي سافرت بعد خلاف صغير ولم تعد. وكانت صفحة (براتيما) قد طويت، وبعدما ظنّ أنّ الحلم يكاد يصبح حقيقة مع فتاة من اللاذقية تعيش في باريس، «راح قلم التدبير يكتب بغير ما كان يمكن أن يكون»، وبقيتُ في حيرةٍ هل أحزن عليه أم على حبيباته؟ ودائماً أميل إليه لأنه لم يكن قادراً على إخفاء نيته الصادقة.
وفي زيارة بقصد الاستشارة الطبيّة يمثل أمامه حلم حياته بشعر فاحم وعينين برّاقتين (فرح الإيرانية) التي اختارها «بكلّ ما في الحبّ المُبْصر من خيال، وكلّ ما في الخيال الدائم من حبّ».. وبعد تلك التفاصيل تُراه يقول: (كلّ دا كان ليه)؟! أم يردّد مع غابرييل غارسيا ماركيز: (عشت لأروي) وربما مع بابلو نيرودا:(أعترف بأنّني قد عشت)!!
العدد 1159 – 12-9-2023