دَمُها يُشْرِقُ

الملحق الثقافي- هادي دانيال :
ها أنا أتَهَيَّأُ
كي أكتُبَ الآنَ سفْرَ الصباحِ البعيدِ
بِلا قَهْوَةٍ مُرَّةٍ
فالفناجينُ في مطبخِ الرُّوحِ مَلأى دَماً
والعناقيدُ تقْطرُ فوقَ البياضِ
بَقايا صَديدِ
مِن جناحِ الحمامةِ أخْتارُ ريشةَ حبْريَ
أغرزُها في وريدي
أينَ ضاعَ دَمِي؟!
قًلْتُ: أغرزُها في فَمِي!
أينَ ريقي
مرارتهُ ولزوجتهُ؟
كانَ مُمتلئاً بِرَمادِ حريقٍ جديدِ..
فأعَدْتُ إلى الطَّيْرِ ريشَتَهُ
وارْتَجَلْتُ نشيدي..
-1-
غَزّة الآنَ عنوانُه
وَمطلعهُ دَمُها
يُشْرِقُ الآنَ في أفُقٍ مِن حديدِ
……….
قَد انْكَسَرَ النّورُ في لحْظَةٍ
عَبَرَتْها الصُّقُورُ إلى وَجْبَةٍ
مِن عُيُونٍ جميلَهْ
وأصابِع كَفٍّ نحيلَهْ
وَثَدْيٍ يَنزُّ دَماً وَحَليباً
على شَفَةٍ مِن بَنَفْسَجْ
……….
العِماراتُ تَهوي على رُكَبٍ
وَتُكَبِّرُ في غَضَبٍ
والدُّخانُ يُعَرِّجُ صَوْبَ السّماء
بأرواحِ سُكّانِها..
كانَ أطفالُها يفتحونَ العُيُونَ على مِخلَبٍ
وَيَلِيْهِ رُكامُ
والقذائفُ كانت تُهَدْهِدُ هذا السّريرَ الأخيرَ
لِيَغْفُو الصِّغارُ على وَقْعِها
وَيَطولُ المَنامُ ..
-2-
تَلْهَثُ الكلماتُ وترتَعِشُ
وتهرُّ على الصَّفَحاتِ حُرُوفاً مُكَسَّرَةً
وَغُبارَ صُوَرْ:
صُوَرٌ لِبَرارٍ مُقَطَّعَةٍ بِجَنازير دَبّابَةٍ إثْرَ دَبّابَةٍ بِمَدَافِع
قَنْصٍ تُفَتِّشُ بَيْنَ المَدارِسِ أو غُرَفِ النَّوْمِ عَنْ صِبْيَةٍ
يُطْلِقُونَ الصَّواريخَ مِنْها..
صُوَرٌ لِشَواطئِ غَزَّةَ ، والبحر أمْواجُهُ شَلَّها الذُّعْرُ مِن
بارِجاتٍ يُلاحِقْنَها بِشِباكِ اللهَبْ
صُوَرٌ لشوارعِ لندنَ، كاراكاسَ، طوكيو.. وَما لَمْ أُسَمِّ
مِنْ أنينِ القَصَبْ
أوْ طُبُولِ الغَضَبْ
صُوَرٌ للعَرَبْ
يُشيحُونَ عَن جُرْحِها وَهُمُو
بَيْنَ مُسْتَعْجِلٍ ذَبْحَها
وَمُرْتَجِئٍ يَتَفَرَّجْ!.
……….
-3-
غَيْمٌ تَكَدَّسَ
والسّماءُ كَقُبَّةٍ بَيْضاء مُرْبَدَّهْ
قِطَطٌ تَمُوءُ
وَنسْوَةٌ يعْبرْنَ قُرْبَ تَوَتُّري
شُهُباً مُعَطَّرَةً
يُحَرِّكْنَ الرَّمادَ بِداخِلِي
والرُّوحُ مسْوَدَّهْ..
وَسَماءُ غَزَّةَ فرْنُ غازٍ هائلٍ
أَخَذَ المدينةَ كُلَّها
وَتصاعَدَتْ في الكَوْنِ رائحةُ الشّواءِ
وسالَ مِن كُلِّ النُّيُوبِ لُعابُها
وَتَسابَقَ المُتَحَمِّسُونَ
إلى مَزادِ شِرائها أوْ بَيْعِها..
……….
مَطَرٌ هُنا
وأنا وراءَ زُجاجِ مَقهايَ الصّغيرِ
وَيَدِي على كَتِفَي تُونُسَ
أستجيرُ بدفئها..
مَطَرٌ هُنا
وَأنا أُحاوِلُ أنْ أُعيدَ إلى رُمُوشِكِ
كحْلَها..
مَطَرٌ
وَتَغْتَسِلُ الشّوارِعُ
مِن دُمُوعِ مدينةٍ بكت المدينةَ
أُخْتَها
………..
-4-
قَمَرٌ واقِفٌ في سماءِ المدينةِ
يَرْشَحُ فضَّتَهُ الذّائبهْ
……….
أمامِيَ في الكأسِ ماءٌ
وَخَلْفَ الزُّجاجِ تَلامَعَ ماءُ المَطَرْ
على العَرَباتِ، المظلّاتِ، شَعْرِ
البَناتِ الصّغيراتِ، إسْفَلْتِ
شارِعِنا التونسيّ الحزين..
كُنْتُ وَحْدِيَ، في عُمْقِ مَقْهايَ ثَرْثَرَةُ الياسمينِ تُداعِبُ
غيتارَ صَمْتِيَ
حَتّى انقِطاع الوَتَرْ..
كُنْتُ وَحْدِيَ وَامْرَأتي
هاتَفَتْني مِن العَرَبَهْ:
هَل أجيء؟
بَيدرُ القَمْحِ امْرأتي
وأنا نَوْرَجٌ حَرِنٌ في شتاءِ الرّصاصِ القَصِيّ
قُلْتُ: لا،
وانْزَرَعْتُ على مقعدِي
سحْنَةً شاحِبَهْ..
فجأةً فاضَ صَمْتِيَ بَحْرَ دِماءٍ
شَواطئهُ لَهَبٌ
والسّماءُ مُحايِدَةٌ
والنُّسُورُ تُبَعْثِرُ هذا الحيادَ الرّماديَّ
تَعْلو وتَزعَقُ
ثُمَّ تَحطُّ وتَحْرِقُ
ثُمَّ أرى
وردةَ النّار
يَنشَقّ عنها الثّرى
لحظةً بَعْدَها تَشْهَقُ..
صارَ قَلبيَ في أُذُنَيَّ
طُبُولاً تُدَقُّ
على وَقْعِها سارَ جُنْدُ العَدُوِّ
وَمِن دَمِيَ اقْتَرَبُوا!.
كُنْتُ وَحْدِيَ، لا
لَمْ يَجئْ مُسْلِمُونَ إليَّ
ولا عَرَبُ..
كُلُّهم مِن وعيدِ عَمائمِهِم
وَصليلِ صَوارِمِهِم
إلى صَمْتِهِمْ هَرَبوا!.
-5-
قَمَرٌ كالِحُ القَسَمَاتِ
قادِمٌ مِن أساطير تلْمُودِهِمْ
فَوْقَ لَحْمِ المدينةِ
غَزَّةَ..
……….
غَزَّةُ ليسَتْ كُتَلاً مِن إسْمَنْتْ
غَزَّةُ أطفالٌ كبروا في مَهْدِ الجُّوعِ، نِساءٌ يَعْجِنَّ تَرَمُّلَهُنَّ
بِدَمْعِ الثَّكْلِ،
وَشُيُوخٌ أَخْطَأَهُم صخبُ القَتْلِ،
عُشْبٌ يعطبُ جنزيرَ الدّبّابةِ وَحَصَىً يكسرُ أنْفَ العلْجِ
وَقرْنَ العجْلِ..
غَزَّةُ نَبْضٌ
وَتَفاصيلُ حياةٍ زهدَ بها كُهَّانُ اللّيْلِ،
تلويحةُ طفْلٍ لأبيهِ على بابِ المدرسةِ، وَسُوقٌ يَتَلامَعُ فيهِ السَّمَكُ
وَيَعْلو صَوْتُ الباعَةِ يَمْتَدِحُ خضارَ الصّحراءِ وفاكِهةَ الزَّمَنِ البَعْل..
غَزَّةُ صَرْخَةُ جيفارا الشَّعْبيُّ وَكُوفيَّةُ عَرَفاتِ على شُرُفاتِ الدُّنيا
وَشَوارِعِها المُهْتَزَّهْ..
غَزَّةُ حكمةُ أحمد ياسينْ
الغائب كالصّاعِقِ
عَنْ قُنبلةِ الدِّينْ..
غَزَّةُ شَلّالُ أغانٍ لٍحَياةٍ أجَّلَها المَوْتُ الطّارئُ
قايَضَها تُجّارُ المَوْتِ
بِحَفْنَةِ رُزّْ..،
وَلُهاثُ أسِرَّةِ حُبٍّ دامٍ ، وَمَدَارِسُ يصعدُ منها زَغَبُ الكلماتِ إلى
أجْنِحَةِ الصَّقْرِ الرَّمْزْ ..
لكنّ عُيُونَ الأطفالِ المفتوحةَ مَوتاً
والمَسمولةَ صَمْتاً
تسألُ: هَلْ غَزّة صخرة ملْحٍ في جُرْحٍ
أم وِقْفَة عزّْ؟..
……….
-6-
كُنْتُ أخْرُجُ مِنّي
أطيرُ على ذكرياتِ الحُروبِ التي لَفَظَتْني
عندَما اعْتَرَضَتْني
صَرْخَةٌ عاريَهْ
لا حرير يُغَلِّفُها أوْ رُتُوشْ:
(بِرَصاصَةٍ في صدْغِ بُوشْ
أنْقِذُوا أرْضاً تموتُ
وَعَقِّمُوا أرحامَ أميركا
فَقَد قَذَفَ الوُحُوشُ مَنِيَّهُم فيها
وأنّى وَجَّهَ الأعْمى بَصيرَتَهُ
تكاثَرَت النُّعُوشْ)
……….
قُلْتُ أمْضي إلى قَمَرٍ في سَماءٍ أَلِيفَهْ
إلى نُورِهِ المُتَهاطِلِ في الصَّيْفِ
ثَلْجَاً خفيفاً..
فارتَطَمْتُ بهِ قَمَراً آخَرَ
طالِعاً مِن رُفاتِ سَدُومْ
خنْجَراً أغْبَرَ
في ضَبابِ عُرُوبتنا والغُيُومْ
ناشِراً في الوَرى
سُمَّهُ الطّائفِيّ
……….
-7-
عبْرَ الزّجاجِ
كانت طيورُ البحرِ تعبُرُ رُوحيَ المُتَرَنِّحَه
شَمْسُ الشتاءِ الحارِقَه
قَدَحَتْ مُخَيَّلَتي
وَضَجَّتْ في الهواءِ
الرّائحَهْ
……….
هذا نَهارٌ واضِحٌ
وَأنا بعيدٌ في شَمَالٍ غَرْبَها
وَعَلَى يَدَيَّ دَمٌ
وفي قَلْبي
حُرُوقُ..
أمْضي بِلا سَمْتٍ
تُحِيطُ بِيَ البُرُوقُ
لا نَجْمَةٌ لا نَجْمَتانِ ولا أهِلَّهْ
لا مِنْجَلٌ لا مِطْرَقَهْ
هذا نَفيرُ المَحْرَقَهْ
أمْضي بِلا زادٍ ولا عتادْ
لا امْرأةٌ عندي
ولا بِلادْ
حتّى علاقتي
بإخْوَتي
علاقة الرّمادِ
بالقَتادْ..
……….
لم أخْلقْ الله الذي خَلَقَني
لم أخْذلْ الله الذي تَرَكَني
كأنّه معي
كأنّه فراشَةٌ مِن فَرَحٍ تَرفُّ بينَ أضْلُعِي
وبلبلٌ مُغَرِّدٌ في مَسْمَعي
لكنّ جيشَهُ وَشَعْبَهُ، عبادَهُ وحزْبَهُ، آياته والحاكمين باسمهِ
والمالِكِين بيته..
ليسوا معي!.
***
أنا الآنَ أمضي
إلى آخِر المَذْبَحَهْ
أُخَزِّنُ في الرُّوحِ والذّاكِرَهْ
كُلَّ هذا السَّوادِ
وَما في الرُّكامِ وَتَحْتَ الرُّكامِ
وفي المَشْرَحَهْ
فَكَم جثّة بُذِرَتْ في تُرابِ البِلادِ؟
وَكَم طائر سَوْفَ يَنهَضُ مِن كُلِّ هذا الرَّمادِ؟
هكذا الآنَ تَنهضُ أجنحةٌ فَرِحَهْ
بأسئلةٍ جارِحَهْ
وَتُحَلِّقُ في كُلِّ نَجْدٍ وَمِصْرَ وَشامْ
بانتِظارِ الحصادِ!.
تونس
                     

العدد 1163 –  17-10-2023

آخر الأخبار
افتتاح أول فرن مدعوم في سراقب لتحسين واقع المعيشة " التنمية الإدارية" تُشكل لجنة لصياغة مشروع الخدمة المدنية خلال 45 يومًا تسويق  72 ألف طن من الأقماح بالغاب خطوط نقل جديدة لتخديم  5  أحياء في مدينة حماة مستجدات الذكاء الاصطناعي والعلاجات بمؤتمر كلية الطب البشري باللاذقية تحضيرات اللجنة العليا للانتخابات في طرطوس الوزير الشيباني يبحث مع رئيسة البعثة الفنلندية العلاقات الثنائية تناقص مياه حمص من 130 إلى 80 ألف م3 باليوم تحضيرات موتكس خريف وشتاء 2025 في غرفة صناعة دمشق وزارة الخزانة الأمريكية تصدر الترخيص 25 الخاص بسوريا .. رفع العقوبات وفرص استثمارية جديدة وتسهيلات ب... مجلس الأمن يمدد ولاية قوة "أوندوف" في الجولان السوري المحتل إعلام أميركي: ترامب يوقع اليوم أمراً تنفيذياً لتخفيف العقوبات على سوريا عودة مستودعات " الديسني" المركزية بريف بانياس تكريم الأوائل من طلبة التعليم الشرعي في التل انعكس على الأسعار.. تحسن قيمة الليرة السورية أمام الدولار "الاقتصاد".. منع استيراد السيارات المستعملة لعدم توافق بعضها مع المعايير ١٥ حريقاً اليوم ..و فرق الإطفاء في سباق مع الزمن لوقف النيران الشيباني يبحث مع وفد من“الهجرة الدولية” دعم النازحين وتعزيز التعاون "السودان، تذكّر" فيلم موسيقي عن الثورة والشعر ٥٢ شركة مشاركة... معرض الأحذية والمنتجات الجلدية ينطلق في حلب