الملحق الثقافي- علي حبيب:
ربما يكون كتاب اللامنتمي لكولون ولسون من أشهر الكتب العالمية التي لاقت ومازالت صدى طيباً كيف يقرأ الباحثون ما في هذا الكتاب وإلى أين يصل بنا اللامنتمي يقول أنس زكي حسن عنه:
إن هذا الكتاب لهو مثال صريح عن مفهوم القراءة التحليلية في موضوع واحد وقد نختلف في مدى دقة الموضوع.. هل هو حقاً اللامنتمي ؟ أم هو بحث عن الفلسفة الوجودية خاصة أن ولسون هو أحد مؤسسي الوجودية الحديثة.
بغض النظر عن مدى صحة النتائج التي توصل إليها ولسون في نهاية هذا البحث أو مدى صحة الاستدلالات التي أتى بها.. لكن، يظل هذا الكتاب بحثاً يستحق الإشادة في الفلسفة الوجودية.
من أهم ما يثير الاهتمام في هذا الكتاب هو كونه صادراً عن رجل لا أكاديمي.. فقد سبق أن ذكرتُ أن ولسون لم يذهب إلى الكلية أبداً. بل هو شاب حدث له أن كان قارئاً نهماً.. ثم خطر بباله كتابة هذا الكتاب في أحد الليالي كما يفعل أي منا حين يقدم على كتابة مراجعة لأحد الكتب !
إن هذا الكتاب هو أشبه ما يكون بمراجعة ضخمة جامعة لعدة كتب في آن واحد.. وقد شاء الكاتب أن تحمل عاملاً مشتركاً أو بالأحرى أن يُنظر لهذه الكتب من وجهة نظر وجودية.
من الجدير بالذكر أنه يتفق وصف هذه المشكلة الموصوفة في هذا الكتاب والتي أسماها ولسون باللامنتمي بالمشكلة المعروفة في علم النفس والتي تحدث عنها إريك فروم وسماها بـ «الانفصال» وما هو اللامنتمي إلا طريقة فريدة كرد فعل بشري على هذه المشكلة.. كنتُ قد تحدثتُ سابقاً كثيراً عن هذه المشكلة في مراجعات سابقة عن بعض الروايات التي جاء ولسون على ذكرها كالجحيم لباربوس ودوميان لهيسة.. وحتى تلك التي لم تكن في زمان ولسون كقواعد العشق الأربعون.
وما يثير الاهتمام أيضاً في هذا الكتاب أن السيد ولسون يؤكد على ترابط «التصوف» مع الفلسفة كنتيجة نهائية مطروحة كحل للامنتمي.. ومن المهم هنا أن نذكر بأنها ليست الحل الوحيد أو ليس بالضرورة الحل الصحيح -إن كان ثمة ما هو شيء كذلك- وهذا شيء موجود كذلك في طرح إريك فروم عند حديثه عن مشكلة الانفصال حيث طرح فكرة ترابط التصوف مع الفلسفة كنتيجة أو كحل لمشكلة الانفصال.
ولا بد لي من أن أعلق على بعض التناقضات التي وجدتها في تفسير ولسون حيث أنه يقول بأن الغرور هو سلاح اللامنتمي ضد الجنون.. أي أنه طريقة دفاع اللامنتمي كي لا يقع في دوامة الجنون مستدلاً على ذلك بحكاية نجنسكي؛ راقص الباليه الروسي الشهير.. والذي اضطر أن يكون عشيقاً لدياكيليف كي يتمكن من أن يعيش ! ويمكننا القول عن نجنسكي أنه رجل رومانسي «كسير» اضطر لتسليم جسده لدياكيليف حتى يستمر في الحياة ثم هرب منه وتزوج في نهاية الأمر من راقصة مماثلة.. وما أن سمع دياكيليف بالأمر حتى أبرق إليه أنه مفصول من فرقته.. ويمكننا التعليق هنا بناءً على المعطيات التي قدمها ولسون أن نجنسكي قد ضاق ذرعاً من معاملته كطفل موهوب لا عقل له.. وذلك في إشارة لدور الوصاية التي كان دياكيليف يقوم به على نجنسكي والذي حسب وصف ولسون كان يتصرف وكأنه «زوج» نجنسكي.. لو كان نجنسكي شاذاً لهرب ليقيم علاقة مع رجل آخر على سبيل المثال لكنه هرب ليتزوج من فتاة راقصة مثله.. ما يهم هنا هو أن النفس الضعيفة لنجنسكي لم تتحمل معضلة اللامنتمي فهربت إلى الدين قبل أن تسقط في الجنون.. لكن، نجد في المقابل نيتشة على سبيل المثال.. لم يكن ينقصه الغرور.. لكنه سقط كذلك في دوامة الجنون في نهاية الأمر.. ونجد هنا أن الغرور لم ينفع نيتشة في شيء.
لقد شمل ولسون في هذا الكتاب أدباء كباربوس وويلز وشيكسبير وتولستوي ودوستويفسكي وكافكا وهمنغواي وإليوت وغيرهم.. وشمل أيضاً رجلاً كلورانس العرب.. وراقص باليه «نجنسكي» وفلاسفة كنيتشة.. وفناناً كفان غوخ.. أي أنه لم يقتصر فقط على الأدباء.. بل تعداهم.. وهذا لربما يتفق مع طرح ولسون في كتابه الآخر «الإنسان وقواه الخفية» أن هذه الفئة من الناس -أي الموهوبين- هم الأقدر على توليد الحاسة «س» وقد أشار ولسون في كتابه هذا عن قابلية اللامنتمي لأن يرى «رؤى». وعن نفسي أتساءل: لمَ لا نجد ردة فعل مشابهة لدى من يملك خلفية علمية؛ أقصد لمَ لم يتحدث ولسون عن عالم كيميائي على سبيل المثال.. أو فيزيائي كأينشتاين.. هل اللامنتمي هو شيء خاص بالموهوبين في مجالات لا علمية؟.
أتفهم تماماً استقبال النقاد لهذا الكتاب ودهشتهم بالمحتوى والكاتب.. ولربما يكون الكاتب كمثال يحتذى لمحب خالص للعلم دون دراسة أكاديمية.. وأتفهم النقد والسخرية التي تعرض لها خاصة على كتابه «الإنسان وقواه الخفية».. وبعض الاستدلالات في كتابه هذا كذلك.. وقد تعرضتُ لهذه النقطة في حديثي عن «الإنسان وقواه الخفية».
إن لامنتمي ولسون لا يبدأ من سؤال من أين هذا الكون ؟ إنما من سؤال من أنا ؟ وما الغاية من وجودي ؟ ولكل فرد رحلته لإيجاد جواب وليس بالضرورة أن يستحيل المرء لا منتمياً في تلك الرحلة إنما تستحيل فقط فئة دون غيرها وقدم ولسون تفسيراً من وجهة نظره عن من هم هؤلاء.. وقدم كذلك حلولاً مقترحة وهي ببساطة أن تجد حقيقة نفسك.. أياً كانت الطريقة؛ الدين، التصوف، أو لربما الارتداد لدين الفطرة كما كان مع جان جاك روسو.. ما يهم هو أن يتوقف اللامنتمي عن كونه لامنتمياً لينتهي إما سعيداً أو قديساً.. وكما أشرنا سابقاً هو طرح مشابه لما كان في علم النفس مع مشكلة الانفصال.. الفارق هنا هو كون اللامنتمي هو من فئة معينة فقط من البشر.. بينما قد يعاني أي بشري من الانفصال.. وعن نفسي أميل أيضاً لترجيح ذلك.
الخلاصة، الكتاب مهم رغم توزيعه السيىء وصعوبة طرحه فهو بكل تأكيد ليس بالكتاب السهل في القراءة.. خاصة مع تقسيمه إلى فصول دون عناوين فرعية وحجم كل فصل حوالي 50 – 70 صفحة ! ونحن نتحدث عن فصول مكثفة تتحدث عن ما لا يقل عن 5 كتب.
العدد 1165 – 31-10-2023