باسترناك.. صوت من الأدب الروسيّ الخالد

الملحق الثقافي- مها محفوض محمد:
ما من متابع للآداب العالمية، إلا وله محطة عند أعلام الأدب الروسي في الشعر والرواية وغيرهما.
فما قدمته الثقافة الروسية للعالم لايمكن لأحد أن يتجاهله، مع أن الغرب بعنصريته الأن يحاول النيل من أعلام الأدب الروسي، ولكن ردات الفعل والتصدي لهذا الجحود الإنساني لايمكن تجاهله، ولهذا تعمل مراكزالدراسات ووسائل الإعلام الثقافية المنصفة على التذكير بهذا الإرث الإبداعي العظيم، وتختار بين الحين والآخر مجموعة من الكتاب والشعراء الروس، وتضيء على ما قدموه خلال رحلة عطائهم.
نقف اليوم عند أصوات روسية أنشدت على امتداد القرن العشرين شعراً وطنياً رفيع المستوى ترددت أصداؤها وملأت الفضاء الغربي من القارة العجوز إلى العالم الجديد وصدحت باللغة الروسية فوق ضفتي الأطلسي بشاعرية قل ميثلها، شاعرية وطنية ولغة قومية دفعت العديد من شعراء الغرب للسير على خطا هؤلاء واعتناق مبادئهم كما فعل شاعر المقاومة الفرنسية الشيوعي النزعة لويس أراغون.
إنهم أبناء روسيا: أخماتوف وتسفنايفا وماياكوفسكي وبلوك وايسنين وباسترناك وماندلستام الذين كان لتجاربهم وقعاً لايزال حياً في الوجدان حيث شغلوا النصف الأول من القرن العشرين على صعيد الشعر المقاوم وفي أوروبا الشرقية ودشنوا عصراً ذهبياً لهذا النوع من القصيد في الآداب العالمية على اختلاف مواقعهم.
لقد غطى شعرهم الغنائي اللهجة أحداثاً هزت العالم شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً إضافة إلى انتقال عدوى لغتهم إلى عدد كبير من شبيبة المثقفين في أصقاع الأرض ليحصد عدداً منهم جوائز بارزة بما فيها جائزة نوبل للآداب رغم مناهضة عدد من حكام لجنة نوبل والنقاد الغربيين لمثاليات الفكر الشيوعي في تلك المرحلة.
ولد باسترناك 1890 -وهو كاتب وشاعر روسي، عرف في الغرب بروايته المؤثرة عن الاتحاد السوفيتي الدكتور جيفاغو، لكن يشتهر في بلاده كشاعر مرموق، مجموعته حياتي الشقيقة تعد من أهم المجموعات الشعرية التي كتبت بالروسية في كل القرن العشرين، وهو رسام متميز وأستاذ في معهد الفنون، والدته هي روزا كوفمان التي كانت عازفة بيانو مشهورة، نشأ بوريس في جو عالمي منفتح على مختلف الثقافات، وكان من زوار والده الدائميين سيرجي رحمانينوف، ريلكه، وليو تولستوي، تحول والده إلى المسيحية أثر كثيراً على بوريس، والكثير من أشعاره تعكس مواضيعاً مسيحية بوضوح.
بدافع من الجو المحيط به، دخل بوريس كونسرفتوار موسكو عام 1910 م، لكنه سرعان ما ترك الكونسرفتوار ليدرس الفلسفة في جامعة ماربورغ، رغم نجاحه الدراسي إلا أنه رفض أن يعمل في مجال تدريس الفلسفة وترك الجامعة عام 1914 م، وهي نفس السنة التي أصدر فيها ديوانه الأول.
قصائد باسترناك الأولى أخفت ولعه بأفكار كانت، وأظهر نسيجها المتميز قدرته على استخدام نوع من التباين في المعاني لكلمات متجاورة ومتشابهة في البناء اللغوي.(و هو نوع معرف في الشعر الروسي ويشبه السجع عند العرب ولكن التشابه يكون في بداية الكلمات)، استخدم باسترناك كذلك لغة يومية، وتقارباً كبيراً من شاعره المفضل ميخائيل ليرمنتوف.
خلال الحرب العالمية الأولى، عمل باسترناك ودرس في مختبر للكيميائيات في الأورال، وهي التجربة التي ستقدم له مادة أولية خصبة سيستخدمها لاحقاً في (دكتور زيفاگو)، على العكس من الكثيرين من أبناء طبقته وأصدقائه وأقاربه الذين تركوا روسيا بعد الثورة البلشفية، فإنه بقي في بلاده وقد أبهرته شعاراتها وهزّه حلم التغيير عبر الثورة.
لم يكن باسترناك وصديقه الودود ماندلستام وحدهما من أبدع الغنائية الشعرية واهتم بالسياسة الدولية فقط إنما شاركهم في اهتماماتهم تلك صديقهم شوستاكوفيتش وانصرفوا جميعاً لتمجيد الثورة الروسية والمبادئ الشيوعية فكان الثمانية يشعرون بأنهم يحملون رسالة وطنية مفادها أنه على الشاعر أن يتكلم بلسان الذين لم يمن الله عليهم بتلك الموهبة وأن على الشاعر أن يحرر العالم من العبودية كما حاول باسترناك في مجموعته «شقيقتي الحياة» على سبيل المثال،،والتي طبع منها 1000 نسخة عام 1922 وجعلت منه أشهر شعراء عصره ولم يكن قد تجاوز الثانية والثلاثين عاماً ويومها تلقفته الشبيبة الناطقة باللغة الروسية على امتداد أوروبا الشرقية وكان ماندلستام هو الشاعر الأشهر في تلك المرحلة وهو رفيقه وتوءم روحه.
التزم باسترناك بالتيار الشيوعي الثوري في تلك المرحلة وانضم إلى اتحاد الكتاب السوفييت وكان ممثلهم في مؤتمر الأدباء المناهضين للفاشية الذي نظم في باريس في حزيران 1935 ليغدو رفيق درب الشيوعيين والصديق الحميم للشاعر شوستاكوفيتش صاحب المجموعة الخالدة «غناء الغابات» وانكب باسترناك على التغني ببلاده وكفاحها وتصديها لجحافل النازية التي أرادت احتلال أرض بلاده ذات الأمجاد العتيدة.
اشتهرت روايات باسترناك بالرمزية ف (لارا البطلة) رمز روسيا الرائعة الجمال والتي تنازعها حب ثلاثة رجال يمثلون السلطة والثروة والمفاهيم الشعبية وطبيب الرواية الفعلي في «د. جيفاكو» هو رمز الديانة المسيحية الروسية غزيرة السخاء بروحها وتفانيها كما يمثل جيفاكو مأساة الشعب الروسي المصلوب على مذابح العبودية والاسترقاق وبها فاز باسترناك بجائزة نوبل عام 1958 ليثير حسد نابوكوف وليعيد كثيراً من الأمجاد الأدبية الروسية.
                        

العدد 1165 –  31-10-2023   

آخر الأخبار
حملة فبركات ممنهجة تستهدف مؤسسات الدولة السورية.. روايات زائفة ومحاولات لإثارة الفتنة مع اقتراب العام الدراسي الجديد...  شكاوى بدرعا من ارتفاع أسعار المستلزمات المدرسية  برامج تدريبية جديدة في قطاع السياحة والفندقة إلغاء "قيصر".. بين تبدل أولويات واشنطن وإعادة التموضع في الشرق الأوسط دعم مصر لسوريا..  رفض الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية  تطوير التشريعات والقوانين لتنفيذ اتفاقيات معرض دمشق الدولي أزمة المياه تتجاوز حدود سوريا لتشكل تحدياً إقليمياً وأمنياً "كهرباء القنيطرة": الحفاظ على جاهزية الشبكة واستقرار التغذية للمشتركين جهود لإعادة تأهيل مستشفيي المليحة وكفربطنا إشارات ذكية وتدريب نوعي لرفع كفاءة كوادر المرور أسدل ستارته..  معرض دمشق.. منصة تشاركية للاستثمار والعمل   إعادة الأموال المنهوبة… بين البعد السياسي والاقتصادي لإعمار سوريا  الدفاع المدني يجدد المطالبة بالإفراج عن حمزة العمارين المختطف في السويداء  الداخلية العراقية تنفي رواية روجها "الحشد الشعبي" بوقوع اشتباكات مع مسلحين على الحدود السورية  وزير المالية: ما تحقق في المعرض إنجاز وطني كبير  إغلاق تراخيص التأمين والتمويل العقاري  الجامعة العربية تدين التوغلات الإسرائيلية وتؤكد دعمها لوحدة سوريا واستعادة الجولان  سوريا في قلب أزمة جفاف غير مسبوقة تهدد الأمن الغذائي  "فورين بوليسي": الشرع أمام اختبار إعادة بناء سوريا  صندوق التنمية.. أفق جديد لبناء الإنسان والمكان