الثورة-رفاه الدروبي:
تُغتال الطفولة على أرض الرسالات كلّ يوم في وضح النهار.. تُسحق ابتساماتٌ كزغب القطا.. تُمزَّق دفاترهم الصغيرة؛ وتظلُّ أقلامهم وألوانهم تئزُّ رصاصاً ضدَّ العابرين المحتلين.
حقَّاً إنَّه الطفل الفلسطيني العائد إلى حيفا وغزة وجباليا، الخارج من جبل النار وفي قلبه ألف بركانٍ لا ينطفئ في وجه الاحتلال، فالطفولة تنادي الكون مِن عمق وجعها، صغارٌ يواجهون جنوداً مدجّجين بالسلاح والكراهية، ليفعلوا ما يحلو لهم، دون ارتعاش عروقهم لبكاء طفل أعزل، ضاربين عرض الحائط بقوانين حقّه في الحياة، متجاهلين وجع ولدٍ يقف خلف الأسلاك الشائكة يُراقب وطناً سُرق منه، يتعذَّب بذاكرةٍ يلتقطُ حبّاتها كعصفورٍ جائع، فينشد الشاعر أحمد دحبور في قصيدة “حكاية الولد الفلسطيني”.
لأنَّ الورد لا يجرح
قتلتُ الورد
لأنَّ الهمسَ لا يفضح
سأعجنُ كل أسراري بلحم الرعدْ
أنا الولدُ الفلسطيني
أنا الولدُ المطلُّ على سهولِ القشِ والطينِ
خَبرْت غبارها، و دوارَها، والسهد
وفي المرآة أضحكني خيال رجالنا في المهد
وأبكاني الدم المهدورُ في غير الميادينِ
تحارب خيلنا في السِند
ووقت الشاي … نحكي عن فلسطين
ويوم عجزت أن أفرح
كَبرْت، وغيَّرَت لي وجهها الأشياء
تساقطت الجراح، على الربابة، فانبرَت تَصْدَحْ
بلاد الله ضيقةٌ على الفقراء
بلاد الله واسعةٌ وقد تطفح
بقافلة من التجار والأوغاد والأوباء
أيأمر سيدي فنكبّ أهل الجوع والأعباء؟
أتقذفهم؟ ومن يبقى ليخدمنا؟
إذن تصفح
ويوم كَبرْتُ لم أصفح
حلفت بنومة الشهداء،
بالجرح المشعشع فيَّ:
لن أصفح.
ملايين الأطفال عبر خمسة وسبعين من سنوات الاحتلال تُهدم بيوتُهم.. وصروح مدارسهم.. تتكسّر مقاعدهم ويُطردون مِن جنتهم.. يُحرمون مِن حقِّهم بالتعلُّم، وبالتقاط خيوط النور.. يتصيَّدُهم رصاصُ المحتل بقنّاصته، بينما يتحرّك كثيرٌ مِنهم في شوارع الألم يبحثون لأُسرهم عن لقمة العيش، فالمعيل غادرهم شهيداً، أو أسيراً، أوجريحاً ينسلُّ من بين أصابعه الوطن، فتلتقطه كفٌّ صغيرة، ترفع الشعلة بيد، وفي الأخرى شيء مِن خبز وحلم.
كانت قصائد محمود درويش نابضة بالوجع، مُعبِّرةً عن المعاناة، فمازالوا يتساقطون كلَّ يوم بينما تطلق المدافع قذائفها ونيرانها لتحرق كل مايقابلها، وستظلُّ قصائده خالدة ترثي الأطفال، وتنمُّ عن شاعرٍ قرأ المستقبل وتنبَّأ به عندما أنشد:
يا أحمدُ العربيُّ؟
لم يكذب عليَّ الحبُّ، لكن كُلَّما جاءَ المساءُ
امتصَّني جرسٌ بعيد
والتجأتُ إلى نزيفي كي أُحَدِّدَ صورتي
يا أحمد العربيّ!
لم أغسلْ دمي من خبز أعدائي
ولكن كُلَّما مَرَّت خطاي على طريقٍ فرَّت
الطرقُ البعيدةُ والقريبةُ
كُلَّما آخيتُ عاصمةً رَمتني بالحقيبةِ
فالتجأتُ إلى رصيف الحلم والأشعار
كم أمشي إلى حُلُمي فتسبقني الخناجرُ
لايسعف الزمن أطفال فلسطين ليكبروا كغيرهم على مهل، فقلوبهم الطريّة تشيخ في صدورٍ غضّة، يتجاوزون أعمارهم، وتُغادرُهُم مرغمّةً طفولتُهم رغم تشبُّثِهم بها وارتعاش حروفها في أفواههم وأفئدتهم.. تُطْلقُ عليهم القذائف كي تُروِّعَهُم.
آلاف الأطفال قتلتهم عدوانيَّة المحتلِّ وإرهابه، هُدِّمَت بيوتُهم، فوجدوا أنفسهم في العراء، ينتزعون مِن بين الركام أشياءَهم وبقايا ألعابِهم، وذكرياتٍ لن تغادرَهم، فالطفلُ رمزٌ للتجدُّد والنمو، وميلادٌ للبطولة والإقدام، بينما مشاهد إبداعهم صوَّرها الشاعر نزار قبانيّ في نظم حروفِ قصيدة “طريق واحد”، عندما أنشد معجباً بصلابة أبناء غزة وعنفوانهم:
يا تلاميذَ غزّة
عَلِّمونا بعضَ ما عندَكم فَنَحنُ نسينا
عَلِّمونا بأن نكونَ رجالاً
فلدينا الرِّجالُ صاروا عَجينا
عَلّمونا كيف الحجارةُ تغدو
بين أَيدي الأطفالِ ماساً ثَمينا
كيف تغدو درَّاجة الطِّفلِ لُغماً؟
وشَريط الحرير يغدو كَمينا
كيف مصّاصة الحليب
إذا ما اعتقلوها تحوَّلت سِكِّينا
مازال أطفال غزة صامدين بقلوب يملؤها الأمل، مُثبتين حقَّهم في الحياة بعزيمة وإصرار رغم كلِّ الجراحات والانتهاكات.. وجوه بريئة ما شبَّت عن الطوق تقرأ مستقبل أمة نسجته بقوَّة إرادة.. علَّمت العالم معنى العزيمة وحبّ الوطن لأنَّها رضعته بالوراثة من حليب الأمهات.