بدأتْ تتآكل تلك المعاني التي أرادتْها
كأنّ لغتها، كلّها بما فيها من كلمات، بدتْ متلاشيةً
تبخرتْ مقاصدُها تماماً..تحوّلت إلى علامات استفهامٍ تتطاير في فضاء المسافة الكائنة بينهما.
ما أرادته هو حصر أفكارها.. التي ترغب إيصالها إليه.. أن تجعلها معلقةً في قفص من كلمات.. فإذا بتلك الكلمات تأخذ بالنسبة له غير معنى.
بالنسبة لها فهي لا تمارس ألعاباً لغوية.. وتعتقد أن اللغة ذاتها التي تستخدمها كتابةً هي نفسها منطوقةً.. وهي ذاتها لغة الآخر.. كيف يحدث إذاً سوء الفهم؟..
لماذا تبدو اللغة قاصرةً.. مخاتلة.. أو مواربة؟!
وأحياناً كأنها تمارس نوعاً من ألعاب الخفّة.. فتنقلب المعاني رأساً على عقب.
لم تتعلم يوماً أن تتحاشى فخ اللغة..
مع أنها لا تنسى نصيحة فيتغنشتاين (يجب أن نتذكر أن لعبة اللغة تقول شيئاً لا يمكن التنبؤ به)..
فنحن نطلق أفكارنا كلماتٍ ولسنا قادرين على التحكم بكيفية تلقي الآخر لها، ولهذا تبدو لغتنا أحياناً مراوِغة..
(فللكلماتِ أعمالٌ).. وتبدو “المراوَغة” إحدى أدهى وظائفها.
كرّرتْ وأعادت نفس المقاصد والمعاني التي أرادتها، وكرر بدوره التلقي والفهم ذاته.
لربما بدت اللغة أحياناً “قالباً جامداً”، ليس بتلك المرونة التي نريدها حين نلعبها عن كامل القصد.. وبالتالي هي قاصرة..
هل للغة طبيعة ضدّية..؟!
(للكلماتِ أعمالٌ)..
كأن تخلق شبكة تواصلٍ أو “لاتواصل” معبّأة بالتفسيرات غير المنتهية..
ولهذا نتوه في تحديد المعنى الذي نريد إيصاله، وبدوره يتوه الآخر في تلقي المقاصد الصحيحة والمقصودة.
اللغة معبّأة بإشاراتٍ يمكن فك طلاسم بعضها، وبعضها الآخر يبقى عصياً، كأنها “شيفرات” مُغلقة.. أُحجيات كلّما حاولتَ السير مجدداً إلى عمق المعنى ضمنها وجدتَ نفسك أكثر توهاناً.
تقتنع أنه يجوز أن لا تكون صورة اللغة المستخدمة هي ذاتها صورة الحياة المتوقعة عنها، كما ذكر مرة فيتغنشتاين (أن تتصور لغة يعني تمثل صورة حياة)..
فتنقلب عن هذه القناعة لتغدو لغتها وسيلة هدم.. هدم لأفكار قابعة في رأسها.
فتطلق الأشياء، تحرّرها من فكرها.. كما لو أنها تودّعها لآخر مرّة.. كنوع من الرفض للامحاء خلف اللغة والاضمحلال وراء هشاشة تلقيها وفهمها..
فعلياً.. تتماهى مع قناعة ميشيل فوكو (قلتُ الأشياء في شكل من أشكال الهدم الذاتي، حتى لا أستمر في التفكير فيها).