د. حسن أحمد حسن:
عندما تتعدد الجرائم المتشابهة والمتكاملة وتتوزع جغرافياً تلزم المحلل الموضوعي تقديم رؤية قابلة للفهم وبعيدة عن أمرين يفسدان الموضوعية، وهما: الأماني والرغبات أولاً، ومفرزات نظرية المؤامرة، والاستمتاع بلعب دور الضحية ثانياً، وإذا انطلقنا من متطلبات ذلك نجد أنفسنا في الأيام القليلة الماضية أمام عدة جرائم مرفوعة السقف، ومتشابهة في آليات التنفيذ، وتحقق أهدافاً مشتركة، حيث شهدت المنطقة خمس عمليات تصعيدية وخطيرة، لأن أياً منها قد تؤدي إلى توسع دائرة الحرب، وامتداد ألسنة اللهب التي قد تخرج عن السيطرة، وقد تؤدي إلى نتائج لا تخدم من قام بتنفيذ تلك الجرائم، أو أوعز بتنفيذها، ويمكن تقسيمها من حيث الجهة المنفذة إلى:
أـــ جرائم نفذها الكيان الصهيوني، وإن لم يعلن تبني بعضها، حيث كان اغتيال المستشار الإيراني رضى الموسوي في دمشق، واغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الفلسطينية صالح العاروري في بيروت.
ب ـــ جرائم نفذها الأمريكي بشكل مباشر وإن لم يتبنَ بعضها أيضاً، حيث أقدم على استهداف الزوارق اليمنية في البحر الأحمر ما أدى إلى استشهاد عشرة من اليمنيين الأبطال، إضافة إلى اغتيال نائب قائد الحشد الشعبي في بغداد السيد أبو تقوى السعيدي باستهداف مقر حركة النجباء في الحشد الشعبي العراقي في شارع فلسطين ببغداد وعلى بعد أقل من 300 متر من مقر وزارة الداخلية العراقية.
ج ــــ استهداف مواكب المشاركين في إحياء ذكرى استشهاد القائد الإيراني قاسم سليماني في مدينة كرمان عبر تفجيرين إرهابيين أسفرا عن استشهاد قرابة مئة شخص على الأقل وإصابة مئات آخرين، وكل ما سبق تم خلال أقل من /72/ ساعة، فهل يمكن أن يكون الأمر مجرد مصادفة، مع أنه لا مكان للمصادفات في عالم السياسة والاستراتيجيات، وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى عدة نقاط قد تساعد على الفهم وتوضيح الصورة، ومنها:
• مرور تسعين يوماً على حرب الإبادة الإسرائيلية المدعومة أمريكياً وأطلسياً، مع استمرار العجز عن تحقيق أي من الأهداف الإستراتيجية التي تم الإعلان عنها رسمياً، وهذا لا يقلل من فداحة الدمار الكبير والقتل وكل أشكال الإبادة التي يعاني منها الغزاويون، وهي مرشحة للتفاقم.
• واشنطن شريك في الحرب منذ الساعات الأولى، وليست مجرد داعم ل” تل أبيب”، وأي إخفاق نهائي ستتقاسمه إدارة بايدن وحكومة نتنياهو، وهذا يعني أن الحاجة لأي صورة يمكن تسويقها على أنها نصر هي حاجة أمريكية ــــ إسرائيلية ضاغطة، ويجب بلوغها مهما تكن النتائج والمقدمات.
• استهداف مقر الحشد الشعبي العراقي قد تكون أخطر الرسائل لأنها كفيلة بوضع حاضر الوجود الأمريكي ومستقبله أمام معادلات اشتباك جديدة، ولاسيما أن الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية أوضح في تصريحه أن قوات التحالف الدولي تتحمل المسؤولية عن هذا الهجوم غير المبرر، وهو يقوض جميع التفاهمات بين القوات المسلحة العراقية وقوات التحالف.
• الجرائم المذكورة المرتكبة هي رسائل بالدم لتخويف إيران وسورية والعراق وحزب الله واليمن ليتوقفوا عن تأييدهم ودعمهم للمقاومة الفلسطينية والاكتفاء بالتفرج على غزة كيف تنحر من الوريد إلى الوريد، وإلا فالتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور.
• توزيع الأدوار وتكاملها بين واشنطن و”تل أبيب” يزيد أقطاب محور المقاومة تمسكاً بخياراتها الاستراتيجية، وزيادة غزارة الدم المسفوك يضاعف من الحقد ضد أولئك المجرمين، ويمهد لأجيال جديدة أشد إصراراً على الانتقام والثأر، والواقع القائم يؤكد ذلك.
• في الاستراتيجيات العسكرية تبقى جميع السيناريوهات المحتملة مفتوحة على طاولة العمليات، ومن ضمنها أن تشتعل الضفة الغربية في فلسطين المحتلة وتلزم أصحاب الرؤوس الحامية على التبريد الحتمي بمزيد من العجز والإنجاز، وليست الضفة أقل بأساً من غزة.
يبقى السؤال الأهم الذي يشغل بال الكثيرين: وماذا بعد؟ وإلى أين تتجه الأمور؟ … موضوعياً: القرائن الدالة تشير إلى استمرار الجنوح نحو المزيد من التصعيد، وليس التهدئة والتبريد، في ظل الرد المباشر المتنامي والمؤلم على جرائم أعداء الله والإنسانية، وفي الوقت نفسه ليس هناك أي ضامن من عدم تكرار عمليات الاغتيال الفردي والجماعي في أي مدينة من مدن أقطاب محور المقاومة، وباختصار شديد لعل الكلمات التي ختم بها سماحة السيد حسن نصر الله خطابه يوم الأربعاء الماضي تقدم الصورة الأوضح، حيث قال: (..وبيننا وبينكم الميدان والأيام والليالي).
• باحث متخصص في الجيوبولتيك والدراسات الإستراتيجية