الملحق الثقافي- بيانكا ماضيّة:
ما الذي قالته المدونة الروائية السورية بمجملها في تناولها ثيمة الحرب؟! ما الذي دفع ببعض الكتّاب والأدباء إلى الكتابة الروائية عن الحرب في بدايتها وأثنائها وقبل أن تضع الحرب أوزارها؟! وهل ينتسب كل ماكتب من روايات بأقلام سورية إلى الفن الروائي أم أنه بإمكاننا القول هي مجرد كتابات سرديّة كان الثأر والانتقام وتصفية الحساب من السلطة هدفها بغية استثمارها إيديولوجياً وسياسياً ولهثاً خلف جوائز ماعادت تنتمي إلى مايسمى اصطلاحاً «جوائز الأدب الروائي»؟!
يستطيع المتابع لما ينشر في المواقع الإلكترونية (العربيّة) والصحف والمجلات التي تصدر خارج سورية أن يدرك مدى اهتمامها وتظهيرها لتلك الروايات التي تناولت الحرب على سورية من وجهة نظر أحادية الجانب والتي غلب عليها الطابع الإيديولوجي الذي يدين السلطة، فبمجرد أن يقرأ المتابع الأسطر الأولى لتلك المقالات المدبّجة بعناوين برّاقة، قافزاً إليه مصطلح ماسمّي زوراً (الثورة السورية) حتى ليدرك ماتناولته تلك الروايات بعيداً عن الحقيقة والواقع وأقرب إلى التضليل الروائي – إن صح التعبير- حتى ليصدم في تناولها مصطلحات من مثل (العنف الرسمي والبعثي) والتي لاتمت إلى الواقع بصلة، متناسية أو مشيحة النظر عن العنف الأصولي الذي صدّرته أميركا وأعوانها من دول الغرب، ذاك العنف الذي شهدته سورية عبر الأحداث الدموية التي طالت أغلب المدن والقرى والبلدات وأهلها، والذي أصبح معروفاً وواضحاً ومعترفاً به حتى على لسان من كان مشاركاً في هذا الخراب الإنساني والحضاري لسورية.
من خلال استطلاع قمنا من خلاله بأخذ آراء نقاد وباحثين وروائيين سوريين اشتغلوا على المدونة الروائية السورية، نقداً وتحليلاً، وعلى الحرب كتابة روائيّة، نجد أن هناك إجماعاً على أن الروايات التي تناولت ثيمة الحرب على سورية لم ترق إلى مصاف الفن الروائي، ومن هؤلاء النقاد الدكتور نضال الصالح، الأستاذ الجامعي والناقد والروائي، الذي توقف عند هذا المنجز الروائي من خلال متابعته للكتابة الروائية السورية، بالقول: شهدت السنوات التسع التي مضت ممّا اصطلح عليه في كتابي الذي سيصدر قريباً بالجحيم السوريّ فورة كبيرة في الكتابة الروائية التي زادت على أربعمئة وخمسين نصّاً، يستطيع المتابع لها القول من دون تردد إنّ ثلثيها لا صلة له البتة بفنّ الرواية، بل هو محض حكايات لا ترقى إلى مرتبة الإبداع، ومسوّغ ذلك هذا الجحيم نفسه المثخن بغير مفارقة تكشّفت السنوات التسع عن بعض قيحها، وليس عن كلّه، ومنه سقوط غير قليل من أشباه المثقفين في مستنقع الأكذوبة التي سميت زيفاً وبهتاناً بالربيع العربيّ، ومنه تقافز غير القليل منهم بين خندق وضده بآن، وإلى الحدّ الذي احتشدت الثقافة العربية، ومنها السورية، بمن يمكن وصفهم بالجراء الصغيرة التي شاءت أن تستنسر من دون أن تملك سوى جناحيّ خفّاش.
لقد انتهيت، وأنا أتابع الكتابة الروائية السورية، ما ينتمي منها إلى الحقيقة وما ينتمي إلى المجاز، إلى غير نتيجة من أبرزها أنّ رواية الجحيم السوريّ لمّا تزل رهينة وهم الانحياز إلى موقف الكاتب من الأكذوبة لا الانحياز إلى الواقع، وإلى أنّ ثمة ذهنية ثأرية تحكم خطاب الكثير منها، وقبل ذلك إلى ترديها في قاع الحكاية بوصفها حكاية وليس بوصفها فناً.
أما الدكتور أحمد الدريس، رئيس مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية في الحسكة فيحدثنا عن الأعمال الروائية التي تناولت الحرب بالقول: تنازع رواية الحرب على سورية اتجاهان: واحد منحاز إلى الخراب تحت عنوان سياسي مفضوح، وآخر منحاز إلى الحياة تحت عنوان إبداعي..وبين النقيضين ولدت العديد من الروايات، غير أن روايات الخط الأول كانت الأكثر عدداً بحكم الدعم الذي قدم لأشباه الكتّاب، وذلك في إطار الاشتغال على تشويه الحقيقة وتزييفها، مايدفع إلى تقرير أن روايات الخراب قدمت نفسها كمناشير سياسية وإعلامية في قالب سردي فج لا يخلص لقيم الفن، وحسبنا العودة إلى عشرات الروايات التي صدرت عن دور نشر مغمورة وأخرى مشهورة لنرى أن أغلب كتاب هذه الروايات هم نكرات ليس لهم بصمة سابقة في عالم الرواية السورية.
ومن المراجعة النقدية لبعض ماتابعناه من هذه الروايات نجد أنها قد سقطت غالباً في شرك الانفعالات اللحظية المزيفة، وحقنت بالمبالغة وخيانة الواقع امتثالاً للعبة السياسية واشتراطات الإعلام المضلل، بمعنى أن ما كتب كان مجرد خطاب أيديولوجي سياسي انفعالي مصوغ بأسلوب فني فقير بمقتضيات الكتابة الروائية.
إن واقع المدونة الروائية السورية التي حملت في ظل الحرب رائحة العفن الأيديولوجي والطائفي يشي بأنها رواية المباشرة المقيتة والثأرية، وهذا مانلمسه في مفردات الهجاء والشعارات وحشد الأحداث المزيفة، مايحيلها إلى تاريخ محرّف بامتياز، فهناك اعتداء صارخ على مفاهيم السرد كون أغلب روايات الخط الأسود جاءت هجينة تجمع بين التوثيق المزور والتخييل المصطنع، بل إن هذه الروايات هيمنت عليها اللغة السياسية على حساب المتخيّل. وفي هذا السياق أرى أن استعجال المواكبة وعدم انتظار تراكم الأحداث قد أسقط أغلب هذه الروايات في حقل الدعاية الإعلامية، فهي أشبه بنشرات أخبار مجمّعة بطريقة سردية ضحلة، إلى جانب دورها الوظيفي المرسوم في تشويه الواقع لإحداث التعاطف بالتضليل والمراوغة.
وفي هذا السياق يشير الناقد الدكتور عاطف البطرس في كلامه عن الرواية والحرب إلى المخاطر التي تقف أمام الرواية السورية ومايتوجب على الروائيين فعله، قائلاً:
يحيل سؤال الرواية والحرب إلى سؤال أوسع وأعمق وهو علاقة الرواية بالواقع وهل هي قادرة على استيعاب شموليته وتقديمه بأشكال فنيّة تتجاوز معطياته وتتخطى تفاصيله باتجاه تعميمات فنيّة ونظرية؟!.
تاريخ الرواية يثبت أنها من أقدر الأجناس الأدبيّة على التعامل مع الواقع بكل تناقضاته وتشابكاته. الحرب الدائرة في سورية وعليها شديدة التعقيد وبعيدة الأهداف وفيها قوى داخليّة وإقليميّة، وعليه، على الروائي إذا ما تصدّى ليس لتصوير وثائقي لمجريات هذه الحرب وإنما لإبداع فني، أن يمتلك أولاً إمكانيات فهم الواقع ليتسنى له التعامل معه فنيّاً.
ويتابع: أمام الرواية السورية مخاطر كبرى في تصديها لهذا الموضوع كي لاتتحوّل إلى الوثائقيّة على أهميتها، ثم عليها أن تقدّم نفسها ليس للوقائع كما هي، فهي موجودة أمام أعيننا، وماشهدناه من مآسٍ وأوجاع وخراب ودمار، يطرح على الروائي مسؤولية فنيّة كبرى بحيث يستدعي أن يكون العمل الفني ليس صورة فوتوغرافية عن الواقع، وإنما إعادة صياغة له تحمل إلى المتلقي الفائدة والمتعة.
أما الدكتور الناقد نذير جعفر في حديثه عن مستويات رواية الحرب السورية يؤكد أن رواية الحرب ليست مجرد رصد وتسجيل للوقائع اليومية، أو لما تفرزه من مآس يعرفها الناس ويعيشونها ويروونها، بل هي معنية في المقام الأول بالتوغل في تداعياتها العميقة على المستويين: الاجتماعي والنفسي، وتصوير ما أحدثته من شروخ وتبدّلات درامية في النفوس والمصائر. ولعل ذلك ما يسوّغ مشروعية الكتابة لقول ما لم يقله أو يَروِه الآخرون، وكشف الأعماق القصيّة والتحوّلات الخطيرة في المواقف والعلاقات الإنسانية، بأساليب وتقنيات جديدة ومخيّلة تكسر الرتابة والمألوف ولا تقف على السطح بقدر ما تجترح معجزتها في اكتشاف الجوهر وصياغته بما يحقق المتعة والتشويق والمعرفة ويرتقي بالشعور الإنساني إلى عرش النبالة والجمال ومحاربة النذالة والقماءة. وهذا النوع من مقاربة رواية الحرب على سورية نكاد لا نعثر عليه وإن وجد فهو نادر، لذلك يمكن القول إن في المدونة الروائية السورية مستويات عدة في مقاربة الحرب أولها استعاد أحداث الصراع في الثمانينيات مع قوى التطرّف الديني في سياق حبكة سردية سيرية تنسج خيوطها بين الأمس واليوم مكتفية بتسجيل وقائع معروفة عن الاغتيالات والتفجيرات والمواجهات المسلحة، وينجرف النوع الثاني من تلك الروايات إلى مستوى التقارير البعيدة عن فنية وجمالية العمل الروائي موجهاً خطابه السردي في سياق إيديولوجي مباشر محكوم مسبقاً بالعداء وتصفية الحسابات وليس بصدقية الفن. واكتفت روايات النوع الثالث من رواية الحرب بدور الشاهد الذي يدون يومياته ومشاهداته ناظراً إلى الحرب بوصفها عملاً وحشياً وانفلاتاً للقوى الغريزية العمياء واضعاً طرفي الحرب في كفة واحدة!
ويصف الباحث الأكاديمي يحيى زيدو الأعمال الروائية السورية بأنه يشوبها ضعف وتحريض وتشويه للواقع، مشيراً إلى أن هناك شكلاً من أشكال الأدب يُطلق عليه توصيف (أدب الحرب)، ويُقصد به الأدب الذي يُكتب عن الحروب، أو في الحروب، أو خلالها لإظهار وحشية الحرب، وتأثيراتها الكارثية على المجتمعات والأفراد على المستويات كافة.
منذ بدايات الأحداث السورية ظهرت أعمال أدبية متنوعة تناولت الحرب على سورية، وكانت هذه الأعمال على شكل خواطر ويوميات وجدت مساحة لها في بعض الصحف اليومية، وفي الشبكة العنكبوتية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
ومنذ العام 2012 بدأت تظهر أعمال روائية وقصصية تتناول الحرب السورية، ليس من موقع إظهار كارثية الحرب وأخطارها على الإنسان والمجتمع، بل من موقع إدانة فئة أو مؤسسة أو جماعة اجتماعية أو دينية أو طائفية أو عرقية أو سياسية.
وكانت معظم تلك الأعمال تفتقد إلى الحد الأدنى من مقومات العمل الأدبي (الروائي أو القصصي)، لأن معظمها كان أشبه بخطاب تحريضي يطلقه الطرف الآخر ضد الدولة السورية ومؤسساتها، وضد البيئة الاجتماعية الحاضنة للجيش السوري، الذي تعرض، بدوره، لحملة مغرضة شعواء أرادت تشويه صورة المؤسسة العسكرية التي تدافع عن سيادة البلاد، وتقاتل ضد الإرهاب الذي يستهدف المدنيين.
وإذا ما نظرنا إلى مجمل الأعمال الأدبية التي ظهرت خلال سنوات الحرب السورية، فإننا سنصاب بالخيبة، لأن معظم هذه الأعمال يفتقد إلى الحد الأدنى من شروط العمل الفني الإبداعي، وربما لا تساوي الحبر الذي كُتبت به، في مقابل نسبة قليلة من الأعمال الأدبية التي تتوافر فيها مقومات وعناصر العمل الإبداعي، حتى وإن اختلفنا في مضمونها، أو التوجه السياسي لكتابها.
من هنا يمكن القول بأن الكثير من الأعمال الأدبية التي ظهرت خلال الحرب لا يجوز إدراجه فيما يسمى (أدب الحرب) بل يمكن إدراجه تحت مسمى (الأدب الإيديولوجي) الذي ينبني على فكرة عقائدية (إيديولوجية) وينتهي بانتهائها.
لكن ذلك لا يعني عدم وجود أعمال مميزة تناولت الحرب السورية من وجهة نظر أدبية، إبداعية، وإنسانية بعيداً عن دوغمائية الأيديولوجيا وأوهامها، وحاكمت هذه الأعمال الحرب برؤية فنية خلاقة عالية المستوى، مثل رواية (إيميسا) للدكتورة هلا أحمد علي، وروايتي (الوحل) و(العتق) للأديب محمد حسين، و(حارس الفلة البنفسجية) للقاص والأديب مفيد عيسى أحمد، وآخرون غيرهم.
فيما يتوقف الكاتب القصصي كفاح رزوق عند ملامح الكتابة السورية بشكل عام، وعند العوامل التي منعت الرواية السورية من مقاربة واقع الحرب على سورية، إلا نادراً، ليشير بأن ما أتابعه من كتابات جعله يعتبر أن هناك ملامح واضحة للكتابة السورية وفي القادم منها ستزداد وضوحاً، وفيها يتضح انتصار الإيديولوجيا السياسية على نصرة الحقيقة مما جعلنا نشاهد شرخاً واضحاً بين عيّنتين من المثقفين إحداها من نجح في الخروج من البلد فانقلب على كل ما كان يؤمن به مبادئ وثوابت وبايع العملاء آملاً بأن يصبح هو مثقف الثورة (كما ادعى وتوهم) وأصبح يجافي الحقيقة ويشارك في رسم الصورة الشيطانية لسورية. أما العيّنة الثانية فقد انخرطت في جحيم المعاناة الاقتصادية لتصب جام غضبها على إداريي المرافق والمؤسسات العامة، وبعد أن طال الحرب زادت معاناتها وانصرفت لنقاش الهم المعاشي بينما تنفرد العينة الأولى بتشويه الصورة السورية.
كما يتضح بروز فئة صغيرة العدد من المثقفين احتارت الاندماج لأي الطرفين وفضلت التطرق إلى أفكار ليس لها علاقة بمنحى الحرب آملةً بالغلبة لأحد الطرفين لتسارع بالانضمام إليه.
وكذلك بروز عامل التهميش للرواية السورية عربياً وإهمالها محلياً، أما العامل الاقتصادي فكان له حصة الأسد في رؤوس المثقفين فانشغلوا به عن السبب الرئيسي لهذا التدهور.
أما التشتت العائلي والنزوح والهجرة والمخيمات فكانت كلها مواد دسمة وأفكاراً لروايات لم تلد بعد لكنها تنتظر وضوح المنتصر لتناغي له.
وهكذا نجد أن أغلب الآراء قد أجمعت على أن تلك الروايات لم يكن لأصحابها صوت قبل الحرب في المنجز الروائي السوري، وأنهم – أي كتّاب الرواية- لم يميزوا بين الحكاية والرواية، وأن دور نشر عربية وغير عربية قد تواطأت مع أصحابها فصنعت منهم كتّاب رواية (معارضين) وهم لايملكون أي مشروع ثقافي، وأن ماكتبوه كان خيانة للواقع وابتعاداً عن عالم الفن الروائي والمسؤولية الفنية، فكانت تلك الروايات مجرد خطاب سياسي إيديولوجي سقط سقوطاً مدوياً، وقد جمع بين التوثيق المزور والتخييل المصطنع فوقع في هاوية المباشرة والثأرية والتقريرية وبالتالي فقد عنصرين هامين ألا وهما الفتنة والمتعة الروائيتين. بينما الروايات التي تناولت الحرب على سورية من وجهة نظر أدبية، إبداعية، وإنسانية كانت قليلة جداً مقارنة بذاك العدد الهائل من الروايات والذي زيّف الحقيقة والواقع معاً.
العدد 1176 – 30 -1 -2024