الملحق الثقافي- ر – س:
تفرّغ للكتابة والنشر بعد أن بلغ الأربعين، جلس لساعات طوال يجمع أفكاره كشهيد معركة طويلة ليوصل رسالته الإنسانية بصدق وإخلاص ووفاء، بهذا أتمّ الغائب الحاضر الروائي سهيل الذيب فعل الكتابة على أكمل وجه ودخل مملكة الأدب من أوسع أبوابها، فأغناها برواياته وقصصه المتميزة، ليغيب عنا جسداً ويبقى ملح إبداعه الروائي على جروحنا.. فبعد رواية «زناة» ورغم الحقبة الزمنية المتفاوتة بين تفجير الأزبكية في السبعينات، كتب «آثام» وما أوصلنا إليه الربيع الأسود، هناك تشابه ما، في كلتا الروايتين، كتب للذين كافحوا من أجل عظمة الإنسان واحترام كينونته بعيداً عن دينه ومذهبه وعقيدته وقوميته إلى الإنسان الإنسان ناشر قيم الخير والجمال رغم الآثام التي ترتكبها الحياة بحقه.. ظهرت ذاتيّة الروائي الذيب في روايته «آثام» بطريقة غير مباشرة وهو ما دعاني لتخصيصها في الإضاءة عليها كعمل روائي اجتمعت فيه المكونات الإبداعيّة، عن طريق حوار الشخصيّات، وعلى لسان بطله «مبعاث» من البعث والولادة المتجدّدة، ومع ذلك لم تكن أحداثها سرداً لتفاصيل خبرات وتجارب الراوي الشخصية وحسب، إنما اجتهد في إظهار مكنونات الشخصيّات الثانويّة والأساسيّة، فهي في النهاية بنات أفكاره الخّلاقة كما اعتدنا عليها».. الآن فقط أدركت معنى الحرية.. لا الحريّة التي فلقوني بها في الأرض المدمّاة، التي لا تحيا إلا في الأوكار والزنازين وسط لسع الأسواط وقلع الأظافر وسلخ الجلود وفقء العيون وأكل الأكباد..الحريّة التي تحمل في كينونتها مقتلها الأشبه بالعبودية لكنها ويا لتعس عشاقها ظلت مضيئة مثل شمعة وسط رياح عاتية».. ظهرت عناصر الرواية جلياً، فكانت حبكتها الأولى أي العقدة رغم تحرّكات شخصياتها ساكنة بعض الشيء، إلى أن وصلنا لجزء بعنوان» شتات ثان» حين وصل البطل إلى الأراضي اللبنانية وهنا تغيرت مجريات الأحداث وتصاعدت وتيرة الصراع فازدادت تشويقاً وإثارة رغم كل مأساة التهجير الذي طال البطل وأسرته، حفاة عراة يفترشون الحدائق العامة، يفتقدون لقطرة حليب وحبة سكر لإرضاع الشقيقة الصغيرة» خلود»، التي ما إن فقدت حتى عانت من الاكتئاب الشديد بسبب الشعور بالإذلال والمهانة والمتاجرة بجسدها الغض في بلد الجوار..! «أحاط بي الجنود من الجهات كلها، وهم يصوبون أسلحتهم تجاهي، فعرفت أنني ذلك الإرهابي، لم يدهشني الأمر، فأنا من أمة لا تظهر بأسها وشراستها وإرهابها إلا على أبناء جلدتها بينما الأعداء ينهشون كبدها ليل نهار».
عاش «مبعاث» في دير مار الياس الذي خصص للسوريين الفارّين من لظى الحرب، فتعلم التربية الإنسانية التي كانت عصب الدير إلى أن أحب فتاة اسمها إياس حداد حفيدة راعية الدير، فرغم أن الدير للحب الإنساني الأعظم.. فقط.. ارتكبا معاً إثماً اسمه الحبّ! «المرأة هي الطريق، فإما أن توصلني إلى القمة، وإما أن تأخذني إلى الحضيض والدمار، فمن هي وأين أجدها». أحداث متصاعدة، أوصلتنا إلى ذروة الرواية، مع جمل بسيطة ومفردات شفافة إضافة إلى اللّهجة المحكيّة التي ابتعد فيها الراوي عن الرسمية، مسمياً الأشياء بمسمياتها فأجاد الوصف وحافظ على دلالاتها الرمزية في آن.. لم يوصلنا الروائي الذيب إلى حل عقدة الرواية بل بقيت محافظة على عنصري التشويق والإثارة ومع ذلك هناك نوع من المتعة الشعورية التي تدخل ذهننا كقراء نلمس فيها الصدق والواقعية، بلغته المتمثّلة بعناصره اللغوية من التصوير والاستعارات والكنايات والبلاغة، أمتعنا الذيب في سرده « لقد آمنت دوماً أن الأعداء ظلّوا على الدوام يزرعون الفتن لنبقى في حروب أهليّة دائمة كي يستفيدوا منها في تمزيقنا، ودمارنا، لا هَم لدينا إلا الطعام والشراب والقتل والنكاح وتجذير الكراهية في نفوس أوهنتها العصبية حتى غيبت العقل».. حين نقرأ رواية « آثام» للراحل سهيل الذيب نعترف وعلى الملأ أنها جزء لا يتجزأ من واقعنا وتشرذمنا أمام أنفسنا، فكما وصف «الناس في بلادي بحاجة قصوى إلى الحريّة التي ترتقي إلى المثل الأعلى، ولكنهم لم يعرفوها يوماً ولم يمارسوها، بل جاءتهم مستوردة عنوانها الانحلال والتفسخ القيمي، والأخلاقي والقتل الرهيب المقنع على الطريقة الهوليودية».
العدد 1176 – 30 -1 -2024