هل غادر الشعراء من متردم..

الملحق الثقافي- أيمن مراد:
تظهر أهمية الأدب والشعر في الحفاظ على التراث والتاريخ، فالأدب والشعر هما ذاكرة الأمة وحافظة التراث، فهما يحفظان لنا العادات والتقاليد والأفكار والأحداث التي مرت بها الأمة.
لقد كان الشعر العربي الوثيقة الأساسية الأولى التي التزمت بها اللغة تجاه آبائها وأحفادها، وكان علينا ألا نفصل تطور الشعر عن تطور اللغة، لأننا أردنا لهذا الشعر طريقاً يؤدي إلى قلوب الجماهير وأفهامها.
لفد هتف الشاعر، وهو عنترة العبسي تحقيقاً أو اتفاقاً هل غادر الشعراء من متردم!»فأي حيرة إبداعية كان يعاني؟ وأي طموح فني بائس كان يكابد؟ وأي شيء كانت هذه الصيحة التي ما فتئت تتردد، ليس بمعناها فقط، بل بمبناها على امتداد العصور، حتى ولو كان كثير من الذين تسرع إلى شفاهم وينزلونها منزل المثال والحكم، لا يعرفون معنى دقيقاً لها.
الشعر صورة من الحياة ونسل من رحمها، وهو ترجمان الشعور، وفيض من توتر الروح والوجدان، وكل موضوع من مواضيع الحياة، سما أو انحّط، مثالياً كان أم واقعياً، وكل همسة أو خفقة قلب أو شرارة انقدحت في الوجدان هي مجالات الشعر.
وليس يعني الشاعر في شعره بالمثل والقيم العليا فما هو بفيلسوف ولا داعية ولا مصلح إنساني، وإذا جاء شيء من هذا في شعره فهو من طريق غير مباشر وإلا فسدت رسالة الشعر، ورسالته تجمل في كلمة فحواها أن الشعر تعبير عن الوجدان.
وفي الواقع فشاعرية الشاعر لا تقاس بنوع الموضوع الذي يتطرق إليه في شعره، ومن ثمة الحكم بالإبداع أو الرداءة، وإنما بطريقة الأداء، وكيفية التصوير، ودلالة اللفظ على المعنى، وتدفق الشعور كتيار مصاحب للصور الشعرية، وهي وحدها العناصر التي يحاسب عليها الشاعر.


وفي تراثنا الشعري القديم كثير من المنظوم الذي ليس بشعر، فمنه ما يخلو من صدق الشعور وأكثر شعر المديح من هذا القبيل، وفي دواوين الشعراء الكبار كالمتنبي وأبي تمام والبحتري كثير من هذه السقطات التي ابتغى بها هؤلاء الشعراء حطام الدنيا مقابل التزييف والقفز على قناعات عقولهم وأحاسيس وجدانهم فالمتنبي الذي يقول في كافور:
قواصد كافور توارك غـيره ** ومن قصدَ البحر استقل السواقيا
والشعر إذا تخلى عن جوهره وساير مجالاً غير مجاله فقد صفة الشاعرية وتحول إلى نظم، وقل مثل هذا عن الشعر الأخلاقي والوعظي المباشر وديوان الشافعي ولامية ابن الوردي خير مثال على هذا.
والشعر موسيقا في الصميم فهو على حد تعريف القدماء له الكلام الجميل الموزون المقفى، وقد حافظ الشعر العربي على نسقه العمودي أحقاباً طويلة، واقتضت ضرورة الحياة وتطوراتها وتباين البيئة من إحداث تجديد فيه دون التخلي عن الأوزان الخليلية، وأفضل مثال على ذلك الموشحات الأندلسية واستعمال الأبحر المجزوءة واستحداث التغيير في بحر بعينه كالبسيط وقد نظم عليه ابن الرومي هجائيته المشهورة:
وجهك ياعمرو فيه طول ** وفي وجوه الكلاب طول
ولكن في العصر الحديث ونتيجة لاحتكاك الشعراء بالثقافة الغربية الوافدة، وبتأثير من الشاعر الإنجليزي توماس إليوت، ثار لفيف من الشعراء العرب على عمود الشعر، ذلك أنهم رأوا فيه إكراهات وقيوداً تعيق حرية الشاعر، ولعل أهمها تبعية الشاعر للغة قصد الاستجابة لدواعي الوزن، وعلى الرغم من أن هؤلاء الشعراء بإمكانهم تنويع القافية كسراً لهذا الغل، إلا أن هذه الحرية في معتقدهم لا تشفي الغليل، فالشعر تيار نفسي مسكون بالرغائب والهواجس والانفعالات، مسكوب في قوالب لفظية ودرجة الانفعال وحدته هي التي تتحكم في طول وقصر البيت، وهو ما يسمونه السطر، ولقد كان السياب ونازك الملائكة والبياتي وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وأمل دنقل ونزار قباني خير من يمثل هذه الحركة التجديدية، التي لاقت معارضة شرسة من قبل المحافظين على عمود الشعر، ولعل أبرز المعارضين العقاد، وله في ذلك حجة وفحواها أن الشعر حركة ومناورة في فن محكوم بالقيود (الوزن والقافية) والشاعر الحقيقي هو الذي يتحرك بخفة ورشاقة دون أن تحد تلك القيود من مرونة حركته، فهو يعبر عن رغائبه وبنات أفكاره ومشاعره أتم تعبير وأكمل تصوير، وكأن تلك القيود غير موجودة أصلاً، وله في ذلك قصيدة طريفة بعنوان «حانوت القيود».
لا ريب أن العقاد قد غالى في حملته على الشعر الجديد، وقد جانب الصواب حين أحاله على لجنة النثر للاختصاص، فالبحور الشعرية وشكل القصيدة العربية المتوارثة ليست وحياً منزلاً، وما على الخلف إلا الاتباع، فلأبناء هذا العصر ثقافتهم وظروف حياة تختلف عن حياة آبائهم وعالم يعيشون فيه يمتلأ حركة ونمواً ومرونة، فمن السخف غض النظر عن كل هذه الأشياء والركون إلى ميراث الأجداد لاستهلاكه دون أن يضيف إليه الأبناء شيئاً جديداً.
إن في الشعر الحديث إنجازات شعرية كبيرة هي ترجمان الشاعر والعصر على السواء، وهي قصائد تستحق البقاء حتى وإن كانت الذاكرة قد ألفت حفظ الشعر العمودي.
وإن القارئ الحصيف الحي الضمير، المرهف الإحساس، الغني العقل ليجد في قصائد من مثل «دار جدي» و»أنشودة المطر» للسياب، و»الظل والصليب» لصلاح عبدالصبور، الفن الكبير الذي يغذي العقل والوجدان على السواء.
ولا أدل على ذلك من هذا المقطع لخليل حاوي من ديوان «نهر الرماد «:
خلني للبحر، للريح، للموت
ماتت بعينيه منارات الطريق
شر الأكفان زرقا للغريق
مات ذاك الضوء في عينيه مات
لا البطولات تنجيه ولا ذل الصلاة !
فهو مقطع قد تكاثفت فيه الروح الشعرية، وتعددت فيه صور الضياع ومشاعر الكآبة والانسحــاق، وموسيقاه مناسبة تماماً لهذا الغرض أي الأزمة الوجودية الخانقة التي يحياها الشاعر.
وأزمة الشعر الحديث في رأينا تأتي من كون الجيل اللاحق لجيل الكبار (السياب، الملائكة، البياتي، دنقل، عبدالصبور) لم تستقم له الملكة الشعرية، ولا تهيأت له أسباب السيطرة على اللغة العربية، ولا تعمق في دراسة الشعر العربي الكلاسيكي، ولا تمرس بدراسة المذاهب والنظريات النقدية الغربية والشرقية على السواء، ناهيك عن الجهل التام بالعروض وقواعده والقافية وأصولها، وأغلبهم يعجز عن إنشاء قصيدة عمودية، ولذا تراه تحت دعاوى التجديد والحداثة وما بعد الحداثة يحاول إخفاء عورته والتستر على فقره بهذه الرطانات التي يسميها صاحبها شعراً حديثاً.
في حياتنا المعاصرة ظاهرة خطيرة تتصل بحياتنا الأدبية، وليس بدٌّ من أن نُعنى بها أشد العناية لأنها توشك أن تكون شرًّا كلها، وليس بدٌّ كذلك من أن نحاول علاجها قبل أن يستفحل شرها، وقبل أن يصبح أثرها في الأدب خطيرًا حقًّا، هذه الظاهرة تأتي مما اقتضاه العصر الحديث من هذه السرعة التي تدفع الشباب إلى أشياء كثيرة، منها سرعتهم في القراءة، وسرعتهم في الفهم أو فيما يظنون أنه الفهم، وسرعتهم في الحاجة إلى أن يصلوا في أسرع وقت ممكن إلى المراكز أو المنازل التي لم يكن الناس يصلون إليها فيما مضى إلَّا بعد الجهد المتصل والعناء الشديد، وينشأ عن هذا كله كثير من التبدلات في القيم، وفي القيم الأدبية خاصة.
فأنت عندما تقرأ ما يُنشر في كثير من الصحف وفي كثير من المجلات في هذه الأيام، تلاحظ أن شبابنا حريصون أشد الحرص على أن يبلغوا من بُعد الصيت وارتفاع المنزلة في الأدب قبل أن تؤهلهم جهودهم من الوصول إلى هذه المنزلة أو إلى هذا المركز، وهم يتصورون الأدب تصورًا أقلُّ ما يوصف به أنه أبعد الأشياء عنْ الأدب بمعناه الصحيح، فكل كلام يمكن أن يُكتب أو يُنشر يسمَّى عندهم أدبًا؛ وهو عندهم من الأدب الرفيع؛ وكل نقد سواء أكان صادقًا أم غير صادق، دقيقًا أم غير دقيق، يمكن أن يسمَّى عندهم نقدًا، وكل ما يستعصي عليهم فهمه أو يشق عليهم تذوُّقه يعد عندهم قديمًا مُبتذَلًا، والأدب القريب الذي يُفهم في غير تكلُّف وفي غير مشقة، والذي لا يحتاج قارئه إلَّا أن يمر على حروفه وألفاظه ليفهمها هو عندهم الأدب الذي يلائم الحياة الجديدة، ويلائم العصر الجديد، ويلائم التطور الذي دُفعنا إليه، ومعنى هذا كله أن هؤلاء الشباب يريدون أن يُعطُوا إجازةً — إن صح هذا التعبير — لملَكاتهم التي خُلقت لتفهم وتستأني في الفهم، ولتنتج وتستأني في الإنتاج، ولتصل من الأشياء إلى حقائقها وأعماقها قبل أن تتحدث عنها وقبل أن تحاول نقلها إلى غيرهم من القراء.
كل هذا يأتي من هذه السرعة التي دُفعنا إليها في حياتنا الحديثة، ومن هذه السرعة التي دُفعنا إليها في التعلم والتعليم أيضًا، وليس بدٌّ من أن نقنع الشباب بأن هذه الحياة التي يحيونها والتي يفرضونها على عقولهم وملَكاتهم جديرة ألَّا تنتهي بهم إلى شيء. وإنما هي جديرة أن تنتهي بهم إلى أن يصبحوا أشبه شيء بالببَّغَاء، يحاكون ويقلدون ويظنون أنهم مُجَدِّدون ومبتكرون.
هناك تهم توجه إلى الشعر الجديد دوماً، ومنها الركاكة والضعف والأمية، وعدم المعرفة اللغوية والتفكك وسواها. بعض هذه التهم قد يكون حقيقياً، فالشعر أصبح مشاعاً وأرضاً مشرعة بلا سياج. فبعض الشعراء الجدد لا يتقنون قواعد اللغة مثلهم مثل بعض الروائيين والقاصين الجدد، ولا يملكون ثقافة واسعة، لا يلمّون بأصول الكتابة ومعاييرها، ولا يسعون إلى تعميق تجربتهم والانفتاح على سائر الجماليات. هؤلاء الشعراء ساهم في ترويج أسمائهم النشر على الإنترنت والفيسبوك. ينشرون قصائدهم بلا مراجعة ولا تصويب ولا «اشتغال» لكن هؤلاء لا يمثلون واقع الشعر الحقيقي الراهن.
وأشخاص آخرون انخرطوا في الكتابة الشعرية بصفتها «موضة» رائجة، ولاسيما الشاعرات اللواتي يحتللن شاشات الكمبيوتر مع صورهن. فالنشر الإلكتروني لا رقيب عليه، على خلاف النشر في المجلات والصحف. فالشعر إما أن يكون دوماً في أزمة وإما لا يكون. إنه صنو الحياة. والأزمات التي يجتازها الشعر تدل على مدى حيويته وحقيقته. والأزمة الشعرية تكون فردية أو شخصية في أحيان، وجماعية في أحيان أخرى.
                          

العدد 1180 – 5 -3 -2024      

آخر الأخبار
السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات ٢٧ بحثاً علمياً بانتظار الدعم في صندوق دعم البحث العلمي الجلالي يطلب من وزارة التجارة الداخلية تقديم رؤيتها حول تطوير عمل السورية للتجارة نيكاراغوا تدين العدوان الإسرائيلي على مدينة تدمر السورية جامعة دمشق في النسخة الأولى لتصنيف العلوم المتعدد صباغ يلتقي قاليباف في طهران انخفاض المستوى المعيشي لغالبية الأسر أدى إلى مزيد من الاستقالات التحكيم في فض النزاعات الجمركية وشروط خاصة للنظر في القضايا المعروضة جمعية مكاتب السياحة: القرارات المفاجئة تعوق عمل المؤسسات السياحية الأمم المتحدة تجدد رفضها فرض”إسرائيل” قوانينها وإدارتها على الجولان السوري المحتل انطلقت اليوم في ريف دمشق.. 5 لجان تدرس مراسيم و قوانين التجارة الداخلية وتقدم نتائجها خلال شهر مجلس الشعب يقر ثلاثة مشروعات قوانين تتعلق بالتربية والتعليم والقضاء المقاومة اللبنانية تستهدف تجمعات لقوات العدو في عدة مواقع ومستوطنات “اللغة العربيّة وأثرها في تعزيز الهويّة الوطنيّة الجامعة”.. ندوة في كلية التربية الرابعة بالقنيطرة