الدكتور ذو الفقار عبود
صاغ الاقتصادي الاسكتلندي ومؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي (آدم سميث) مصطلح “اليد الخفية” في القرن الثامن عشر للتعبير عن الآليات التي تنشئ نتائج اجتماعية واقتصادية معينّة بسبب سعي الأفراد لتحقيق مصلحتهم الذاتية بما يؤدي في النهاية لتحقيق المصلحة الجماعية.
وفي الثمانينيات من القرن العشرين، استعارت رئيسة الحكومة البريطانية مارغريت ثاتشر العبارة الشهيرة بقولها إن “النيوليبرالية هي عقيدة إيمانية لا تخلو من السحر، إذ تبشّر بـاليد الخفية التي تحرّك السوق”، ولاحقاً قال الصحافي الأميركي توماس فريدمان: «إنّ اليد الخفية للسوق تحتاج إلى القبضة الحديدية للبنتاغون الأميركي وهامبرغر ماكدونالد، ومنتجات ماك دوغال»، (أكبر مصانع الأسلحة الأميركية).
لقد أحيا مبشرو النيوليبرالية أفكار المفكّر الليبرالي النمساوي (فريدريك فون هايك) الذي غابت أفكاره الاقتصادية خلال الثلاثينيات من القرن العشرين أثناء فترة دولة الرعاية بعد الحرب العالمية الثانية لمصلحة أفكار الاقتصادي البريطاني جون مَينارد كينز التي دعت إلى تدخّل الدولة في الاقتصاد لوقف الأزمات الدورية للرأسمالية. ومن أبرز مبادئ نظام فون هايك الاقتصادية والفلسفية والسياسية، مركزية السوق التنافسية ومجابهة المساواة بالحرية.
ولم تدخر وسائل الإعلام الأميركية جهداً في إجراء مقابلات مع الأكاديميين من حملة جائزة نوبل للاقتصاد، كي تسلّط الضوء على الوضع الاقتصادي ، وتقترح الحلول اللازمة للخروج من الركود الاقتصادي العالمي. فمناصرو النيوليبرالية الرأسمالية لا ينظرون لحلول من خارج صندوق النيوليبرالية, وهذا التوجه لتشخيص المشكلات الاقتصادية وافتراض الحلول لها يعكس حالة الغرور العلمي التي وصلت إليها النيوليبرالية الأميركية، من حيث اعتبار معتنقيها أنها الحل الذي لا يمكن للبشرية أن تمتلك مثله، كما أشار إليها المفكر الأميركي (فرانسيس فوكوياما) في كتابه “نهاية التاريخ”، والمفكر الأميركي الراحل (بيتر دراكر) في كتابه “مجتمع ما بعد الرأسمالية”.
بعد الحرب العالمية الثانية، تبنت الولايات المتحدة نظريات عالِم الاقتصاد البريطاني كينز الذي تبنى ضرورة التدخل الحكومي في السوق لمنع الشركات من الإضرار بالاقتصاد والمجتمع. وقد استمرت النظرية الكينزية تحكم النظام الرأسمالي منذ عام 1945 حتى أوائل 1970. وقد عُرفت الأيديولوجية التي حكمت الاقتصاد في تلك الفترة بالليبرالية المتضمَنة Embedded Liberalism إشارةً إلى وجود حرية في السوق مع تدخل حكومي عند الحاجة.
في تلك الفترة، كانت كل الأمور التي من شأنها أن تقدم الرفاه الاجتماعي للسكان بيد الدولة, كما أن قطاعات الصحة والاتصالات والمواصلات والتعليم وغيرها كانت تُدار من قبل الدولة.
ولم يكن أحد آنذاك يجرؤ على أن ينادي بنقل ملكية الدولة لتلك القطاعات الحيوية إلى القطاع الخاص لأنها ببساطة تمس حياة المواطن العادي الذي هو المحور الرئيس في الإنتاج والاستهلاك في النظام الرأسمالي.
ومنذ فترة الأربعينيات إلى سبعينيات القرن الماضي، عملت مراكز الدراسات وجماعات الضغط التي تُموَل من الأثرياء على تشويه الليبرالية المتضمَنة والترويج لإيديولوجية جديدة عرفت باسم النيوليبرالية. ومن أبرز المنظرين لتلك الإيديولوجية البروفيسور (فريدريك فون هايك) وتلميذه (ميلتون فريدمان) من جامعة شيكاغو.
وبدعم مالي من تحالف لشركات عملاقة تهمها ما ستنتجه الإيديولوجية الجديدة، تم إنشاء الكثير من مراكز الدراسات والأبحاث التي روّجت للفكرة وأظهرتها بشكل جذاب. وقد نجح مروجو النيوليبرالية آنذاك في إقحامها في أجندة حزب المحافظين في الولايات المتحدة في عهد رونالد ريغان (قبل أن يتحول للحزب الجمهوري) في بدايات الثمانينيات من القرن المنصرم.
تبنى الرئيس رونالد ريغان هذه الأيديولوجية التي تقضي بإطلاق حرية السوق التامة في تنظيم أعماله من خلال نقل المسؤولية التنظيمية من كاهل الحكومة إلى كاهل أطراف السوق الذين بوعيهم سيحددون السيء من الجيد في السوق كما كان ينادي (آدم سميث)، كما تقضي بأن تتخلى الدولة عن الرفاه الاجتماعي، وخصخصة الكثير من القطاعات الحيوية التي تملكها وتديرها الدولة ونقل ملكيتها إلى القطاع الخاص.
بعد قرابة عشر سنوات من تبني النيوليبرالية في الولايات المتحدة, ارتفع دخل الـطبقة التي تمثّل 10% من الأميركيين الأكثر غنىً بحوالي 16%. أما دخل الـطبقة التي تمثّل 5% الأكثر غنىً في الولايات المتحدة فارتفع بحوالي 23%، في حين أن دخل الـفئة التي تمثّل 1% الأكثر غنى في الولايات المتحدة فارتفع بحوالي 50%. وكلما ارتفعنا بفئة النسبة المئوية من السكان كلما قل الدخل، وذلك استنادا لنظرية الاقتصادي الإيطالي فلفريدو باريتو التي تقول أن 20% من الناس يملكون دخلاً أو ثروات أجمالية تصل إلى 80% مما يملكه الجميع في حين أن 80% من الناس يملكون ثروات أو دخل يساوي 20% من إجمالي ما يملكه الناس.
أما بالنسبة للـطبقة التي تمثّل 80% من الأميركيين فقد انخفض دخلهم السنوي نزولاً كلما انحدرت النسبة المئوية. وكانت الـفئات التي تمثّل 10% الأقل فقراً في الولايات المتحدة قد انخفض دخلها قرابة 15%. وفي عام 1997 اتسعت الفجوة بين الـ 1% الأكثر غنىً وبين الـ 10 % الأكثر فقراً ليحقق الغني 115 مرة زيادة عما يحققه الفقير.
ومنذ ذلك الحين، تعاظمت الديون على الأفراد الأميركيين من الطبقات الوسطى والدنيا بحيث وصل إجمالي تلك الديون إلى 14 تريليون دولار في العام 2019، وما يفوق 60 % من حصة الفرد الأميركي في الناتج المحلي الإجمالي.
وقد أدت النيوليبرالية (بسبب الخصخصة، وتخلي الدولة عن الرفاه، وازدياد ثروات الأثرياء) إلى امتلاك الأثرياء تأثيراً كبيراً على صنع القرار السياسي الأميركي وعلى كافة المستويات، فلم تشهد الولايات المتحدة منذ ثمانينيات القرن الماضي رئيساً لا يمثّل توجهات مجموعة من الشركات العملاقة، إلا باراك أوباما الذي تم جلبه للرئاسة لتنفيذ المشروع الصهيوني بتغيير الأنظمة السياسية من خلال تعويم تنظيمات التطرف الديني, ولاحقاً تم تقييد أفكاره وقراراته بتأثير تلك الشركات على أجهزة الدولة الأخرى.
ومن أبرز أعراض النيوليبرالية في الوقت الحالي تدني مستوى الرعاية الصحية في الدول التي تعتنقها، ما انعكس على ارتفاع عدد وفيات كورونا في تلك الدول مقارنةً بغيرها ممن لم تتغول فيها النيوليبرالية.
منذ نهاية الحرب الباردة، والنيوليبراليةُ هي الوجه الاقتصادي للإمبريالية الأميركية الجديدة، وليس هناك أبلغ تعبيرًا عن التلازم بين مذهب اقتصادي يُملي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تطبيقاته، وقوة الولايات المتحدة العسكرية، من عبارات (جيسيكا وايت) في كتابها «أخلاقيات السوق» (٢٠١٩) الذي تشدّد فيه على أنّ النيوليبرالية هي مذهب سياسي وأخلاقي وليست مجرد مذهب اقتصادي، وتؤكد أنّ العلاقة بين حقوق الإنسان والنيوليبرالية أوثق بكثير ممّا يعترف به دعاة تلك الحقوق، وتخلص إلى التشكيك في قدرة تلك المنظمات على تحدّي الآثار البنيوية لآليات السوق.
تبنت بريطانيا، في عهد مارغريت تاتشر النيوليبرالية, وقد أصاب بريطانيا ما أصاب الولايات المتحدة من حيث ازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء، وسيطرة الأثرياء على القرار السياسي، تبعتها العديد من الدول تحت ضغوط وإملاءات سياسية أميركية، أو من خلال تطبيق شروط صندوق النقد الدولي، الأداة الرئيسية الأميركية لعولمة النيوليبرالية.
أعطت النيوليبرالية الولايات المتحدة نفوذاً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً دولياً. فقد استطاعت من خلال النيوليبرالية أن تربط العالم باقتصادها وبعملتها. وأصبح البنك الاتحادي الفيدرالي وسوق وول ستريت القلب النابض للاقتصاد العالمي، وأصبحت التعاملات المالية العالمية بين أي دولة في العالم يجب أن تمر عبر القنوات الأميركية، التي تستخدمها في فرض عقوبات اقتصادية على الدول.
تركز النيوليبرالية على تخفيف القيود التشريعية على النظام المالي وتشجيع المبادرات التشريعية الذاتية غير الملزمة على مستوى الصناعة، مع التركيز على التعاملات على مستوى العقود ما أدى إلى ارتفاع تكلفة التعاملات.
كما أطلقت النيوليبرالية العنان لما تسميه الابتكار المالي (الهندسة المالية) من خلال المشتقات، فتنامى عدد التعاملات في المشتقات وأنواعها بأضعاف ما كانت عليه قبل النيوليبرالية، ما أدى إلى ازدياد الفارق بين النمو الاقتصادي الحقيقي والنمو في التعاملات المالية عالية الخطورة وغير المساهِمة في الاقتصاد الحقيقي. وبحكم النيوليبرالية الذهنية المترسخة تحول المستثمر الغربي إلى طماع ومخاطر في الاستثمارات غير الحقيقية التي تبخرت خلال الأزمة المالية العالمية.
اليوم تقوم النيوليبرالية على ما يسمى تسويق الاستثمار الأجنبي لتحويل مدن كبرى مثل مدينة نيويورك إلى شركة نيويورك (New York Inc). تطبق هذه الوصفة مدن عربية مثل إمارة دبي التي اتبعت نموذج نيويورك، لتتحول إلى شركة دبي (Dubai Co).
وما يثير الانتباه أن نموذج نيويورك لم يفلح في تقليل خسائرها البشرية في مواجهة كورونا بسبب فشل الرعاية الصحية فيها وقلة إمكانياتها، وكل المؤشرات تدل على أن نموذج دبي الاقتصادي يسير على نفس النهج, أي زيادة الديون, فالاستثمار الأجنبي لا يجدي نفعاً بل يفاقم الأزمات، والغريب في الأمر أن المملكة العربية السعودية قررت أن تتبنى نفس النموذج في وقت ثبات فشله عالمياً.
إن النتيجة الحتمية للسياسات النيوليبرالية على معظم دول العالم مشابهة إلى درجة كبيرة لما فرضته النيوليبرالية على الأميركيين من واقع اجتماعي وسياسي. وعلى سبيل المثال فقد تبنى الأردن السياسات النيوليبرالية خضوعاً لشروط صندوق النقد الدولي، فباعت الدولة مقدراتها، وسيطر الأثرياء فيها على المنظومة، وتخلت الدولة عن الرفاه, واليوم تطبق مصر نفس الوصفة الأميركية فتبيع مرافق الدولة للقطاع الخاص لتحصل على قرض ومنح أجنبية.