لن يستفيد صناعيونا شيئاً -على ما يبدو- من صراخهم المتعالي جراء التكاليف الباهظة التي باتت تترتب على أسعار الطاقة الكهربائية، والتي وصلت إلى حدودٍ غير معقولة، ففي الوقت الذي يحاولون فيه بذل المزيد من الجهود لزيادة الإنتاج المتفق عليه صناعياً وحكومياً بأنه هو الحل الأمثل والكفيل بإنعاش الاقتصاد الوطني، كان من المؤسف أن نرى توجهاً متناقضاً يفضي إلى تعطيل الإنتاج رغم المخاطر الشديدة التي يمكن أن تنجم بالنهاية عن العقلية التبريرية اللامكترثة في تقدير تلك المخاطر..!
فأسعار الطاقة الكهربائية –يقول الصناعيون اليوم بأنها– ازدادت عليهم خمسين ضعفاً عما كانت عليه في عام 2020 وتقدّموا للحكومة ببيان يشير إلى أن سعر الكيلو واط الساعي للقطاع الصناعي حالياً يصل إلى ما يعادل /16,5/ سنت أمريكي الأمر الذي يضعهم في الزوايا الضيقة، تجاه السوق الداخلية نتيجة اضطرارهم بذلك لخفض الإنتاج ورفع الأسعار على الرغم من القدرة الشرائية الضعيفة عند أغلب المستهلكين، ويضعهم أيضاً في الزوايا الأكثر ضيقاً تجاه الأسواق الخارجية، لأنهم بهذه التسعيرة فقدوا القدرة على المنافسة مع صناعيي دول الجوار على الأقل، فقد باتت تكاليف الكهرباء على الصناعي السوري أعلى بكثير من التكاليف التي يدفعها الصناعي المصري –مثلاً– والتي لا تتعدى / 2,5 / سنت للكيلو واط، والتركي التي لا تتعدى / 12 / سنتاً، والأردني / 9,5 / سنت، والسعودي / 7 / سنتات، وهذا يُشكل فارقاً كبيراً بينهم وبين الصناعي السوري الذي ينوء تحت وطأة / 16,5 / سنت، الأمر الذي يبعده فعلياً خارج ساحات المنافسة، ما يعني أننا بذلك نكون قد حققنا جملة خسائر فادحة.
ولذلك فإن ما نسمعه اليوم من صرخات تحذيرية من الصناعيين بأن الاصرار على هذه التسعيرة ينذر بنتائج كارثية على الصناعة الوطنية ستؤدي إلى توقف منشآت كثيرة عن العمل والإنتاج، هي صرخات تستحق التوقف والإمعان وإعادة النظر بهذه التسعيرة الجائرة على الصناعة الوطنية حتى وإن كانت تتناسب مع تكاليف حوامل الطاقة على الحكومة التي ما تزال مصرّة على ألا ترى في هذا الأمر سوى التكاليف الجزئية التي تترتب عليها هي بشكل منظور، ولكن في حقيقة الأمر فإن التكاليف والنتائج المرتقبة عند استمرار هذا النهج ستشكل خسائر أفظع على الاقتصاد الكلي، وستؤدي إلى مجموعة ارتدادات غير منظورة ستؤثر في العديد من مسارات التنمية، إذ سوف يتراجع الإنتاج الكلي، والناتج الكلي، ويزداد الكساد، وترتفع نسبة البطالة، ونمعن في هدر فرص الربح الممكنة وفرص التغذية بالقطع الأجنبي نتيجة حرمان الصناعيين من التصدير لعدم قدرتهم على المنافسة.
الذي لا شك فيه أن حجم التحديات التي تواجهها الحكومة الناجمة عن ظروف الحرب والحصار، والكلف العالية المترتبة عليها عند تأمين حوامل الطاقة هي كبيرة ومرهقة، ولكن مع ذلك ليس من الحكمة أبداً أن نسدّ هذه الثغرة لنفتح عوضاً عنها الكثير من الثغرات الأخطر .. والأشد صعوبة، وليس صحيحاً ولا مقنعاً بأن ارتفاع تكاليف إنتاج الكهرباء بسبب ارتفاع أسعار المشتقات النفطية وصعوبة تأمين قطع مستلزمات صيانة مكونات المنظومة الكهربائية، كافية لاتخاذ مثل هذا الإجراء الذي يقيد الصناعيين ويوصلهم إلى مرحلة الشلل والعجز، وفي مثل هذه الحالة لا بد من تقاسم الظروف وتوزيع ارتداداتها على الطرفين لمؤازرة الصناعة الوطنية ومنحها القدرة على الاستمرار والإنتاج والمنافسة والمساهمة الفاعلة في الإنعاش الاقتصادي وزيادة فرص العمل وتحسين الحياة المعيشية ولو نسبياً، فالمهم أن نتقدم ولو بخطوات وئيدة، في وقت لم تعد هناك قدرة فيه على هضم المزيد من الفشل والتراجعات.