الحديث عن الثقافة الوطنية في عصرنا هو حديث عن واقع يتساوى فيه تهديد ثقافات المجتمعات بتهديد وجودها.. فللثقافة في المجتمعات الوطنية تأثير أكبر بكثير مما قد يبدو للوهلة الأولى.. خاصة حين النظر إليها بمفهومها الواسع الذي يشمل كل ما يتعلق بحياة الناس، ومنه اللغة والأيديولوجيا والنتاج الإبداعي الفكري والفني، وما يمكن إدراجه تحت مفهومي التراث المادي واللامادي.. وتستطيع الثقافة أن تقوم بدورٍ وطني جامع في الوطن السوري حين النظر إليه على أنه بلد متنوع ثقافياً، لا (هوياتياً).. وما يترتب على ذلك من احترام التنوع، والحفاظ عليه، وإظهاره ونشره.
من بين مجالات العمل الثقافي العديدة يمتلك الفن التشكيلي والموسيقا قدرة أميز على التأثير الواسع بحكم طبيعتهما القادرة على مخاطبة أوسع شرائح المجتمع دون لغة وكلمات، وكونهما يستجيبان للمتعة البصرية والسمعية، وللمواهب الفطرية عند الأجيال الناشئة.. وستتوقف هذه الورقة عند ما يمكن عمله في المجال التشكيلي، في سبيل الارتقاء بالذائقة الجماعية، والأهم من ذلك تكريس ثقافة وطنية جامعة.
ساهمت جميع مكونات الشعب السوري في صنع المنتج التشكيلي، وقد امتلك الفن التشكيلي حضوره الراسخ في حياتنا الثقافية، ولكن ليس في حياتنا الاجتماعية، والتباين بينهما واسع للغاية، والأهم هنا ألا تبقى الثقافة الوطنية أسيرة النخب، فالفن التشكيلي السوري، رغم كل مظاهر حيويته، لم يصبح (سلعة ثقافية) مطلوبة من الجمهور الواسع في سورية – إن صح التعبير – وجمهوره لا يزال حتى الآن جمهور نخبة، مما يضعف إلى حد بعيد دوره الاجتماعي، ودوره الوطني.
ليس المطلوب نزول الفن إلى الناس بالمعنى الإبداعي، وإنما بالمعنى المادي المكاني.. فقسم هائل من الجمهور يتهيب دخول صالات العرض الفني، أو يجد نفسه غريباً عنها، وغير معني بما تعرض..لكن الانتقال بالفن إلى الناس (مكانياً) حقق نتائج إيجابية كبيرة، وهناك تجارب عربية ومحلية على درجة في مقدمتها تجربة بلدة (أصيلة) المغربية على المحيط الأطلسي.. فقد قام فنانوها وأصدقاؤهم بإشراك أطفال البلدة في رسم لوحات تجريدية بهيجة على كامل جدران مباني وبيوت البلدة.. وما لبث أن أصبح هؤلاء الشركاء الصغار أكثر حرصاً على مظهر بلدتهم الجديد، وأكثر انتماءً اليها، فكان الواحد منهم يسارع – بمبادرة شخصية – لترميم أي عطب يلحق بالجداريات.. وسنة بعد سنة تحولت هذه المبادرة إلى مهرجان دولي سنوي يشارك فيه فنانون من أنحاء العالم.. وشهدت البلدة تطوراً كبيراً في الثقافة والسياحة والخدمات والاقتصاد.
ثمة تجربة سورية تستحق التوقف عندها وهي تجربة الفنان التشكيلي الراحل سعد الله مقصود الذي سعى إلى تعميم الثقافة التشكيلية عبر إطلاق مشروعه الذي حمل عنوان (الفن للجميع) بهدف خلق التواصل بين اللوحة والناس من مختلف الشرائح والأعمار والمستويات، وكانت الخطوة الأولى في هذا المشروع الرائد مطلع صيف عام 1999 حين عرض مكبرات للوحات أكثر من خمسين فناناً سورياً على ثلاثمئة من اللوحات الإعلانية المضاءة المنتشرة في شوارع وساحات دمشق، ثم أتبع هذا المعرض المفتوح بمعرض مشابه في مدينة حلب، وفي وقت لاحق كرر المبادرة مع خمس عشرة لوحة مختارة من أعمال لؤي كيالي، عرضت بعد ذلك في معرض خاص استضافته صالة عرضٍ بدمشق، بالتزامن مع إطلاق الكتاب الأول (والأخير) ضمن المشروع الطموح.