الثورة _ لينا إسماعيل:
منذ دخولي عالم الصحافة وأنا ألوذ إليه كلما تناولت موضوعاً يخص تاريخ حلب أو أحد أعلامها، ولطالما نشرت عبر صحيفة الثورة حوارات ولقاءات جمعتني به ليس باعتباره المرجع الثقافي والتاريخي الخصب فحسب، وإنما لكونه العاشق والحافظ الأمين لتراثها المادي واللامادي، فهو المؤرخ المخضرم في الأدب والتاريخ والتراث العربي والسوري، وهو من أهم مفكري عصره الجدير بحفظ وتوثيق كل مايتعلق بوطنه تاريخاً وحضارة.
إنه الباحث والمؤرخ والأديب الكبير الدكتور (محمد قجة) الذي ودعته قبل أيام (حلب المحروسة) كما كان يحب أن يلقبها بعد أكثر من ثمانين عاماً قضاها في محراب عشقها، نشر خلالها مئات الأبحاث والكتب والمؤلفات، وألقى مئات المحاضرات والندوات عبر أكثر من 120 منبراً ثقافياً حول العالم.
كان يعتبر حلب واجهة التاريخ العربي والثقافة العربية، وقد عبر عن اعتزازه بكل مراحل التاريخ التي مرت بها حلب من خلال مجمل اللقاءات التي أجريت معه وقد تجاوزت 200 لقاء تلفزيوني و100 لقاء إذاعي في قنوات عربية وعالمية، وعبر مئات اللقاءات الصحفية والمقالات التي نشرت له في صحف ومجلات عربية وعالمية.
ولأنها عشقه الباقي إلى الأبد أراد فقيد حلب الكبير محمد قجة أن يضع بين أيدينا مجلداً شاملاً يبقى للأجيال القادمة حمل عنوان ( حلب في كتاباتي وقصائدي ) وثق من خلاله ملامحها الحضارية الآسرة، وخصوصيتها الضاربة في عمق التاريخ، من منطلق منهجي علمي وعقلانية تاريخية، حيث مر بها أكثر من ثلاثين حضارة، ورغم كل النوائب والأزمات التي حلت بها لم تمت، وكلما دمرت تعود للحياة من جديد.
محمد قجة الابن البار الذي شكّل منبعاً ثراً، ومرجعاً توثيقياً فريد الإخلاص، عميق الوطنية، عزيز الانتماء لمسقط رأسه حلب، ولوطنه سورية عموماً خطّ بمداد عشقه 23 مؤلفاً نذكر منهم (دمشق في عيون الشعراء ) و( شجرة الدر ) و ( القدس في عيون الشعراء ) واشترك مع مؤلفين آخرين في تقديم 35 مؤلفاً نذكر منها ( حلب في ظلال التاريخ ) و ( الجامع الأموي الكبير ) والذي نال مئات الأوسمة وشهادات التقدير والتكريمات كان آخرها من رئاسة الجمهورية العربية السورية.
أذكر تماماً أنه في احتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية التي كان أميناً عاماً لها عام 2006 كلما التقيتُ بشخصية فكرية أو أدبية ثقافية من الضيوف العرب المشاركين، أو من الجاليات السورية في المغترب، قدموا عبارات الشكر والامتنان للمفكر والمؤرخ الكبير محمد قجة، و كان الرابط المشترك بينهم صلة المودة والصداقة الوطيدة التي جمعتهم به، فقد كانت جهوده متفانية بكل شغف ومسؤولية في احتواء الفعالية، وحرصه شديد على إنجاحها و اختيار شخصيات عربية وسورية بارزة للحضور وإغناء الاحتفالية فكراً وتاريخاً وثقافة.
ورغم كل المناصب التي شغلها من عضو مجلس إدارة لدى مركز المخطوطات في مكتبة الإسكندرية إلى عضو مجلس الأمناء لدى مؤسسة القدس الدولية ومستشار منظمة اليونسكو في سورية لشؤون التراث غير المادي2010 إلى عضو مجلس الخبراء لدى مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة ورئيس لجنة السجل الوطني للتراث الثقافي في سورية عام 2009 ورئيس مجلس إدارة جمعية العاديات ومجلة العاديات والكتاب المحكم السنوي ( عاديات حلب ) ورئيس تحرير مجلة ( التراث) التابعة لوزارة الثقافة السورية 2009 وغيرها، إلا أن هذه المسؤوليات لم تثنه عن الإبحار الدائم في عمق خصوصية الشهباء الأثرية والإنسانية، إذ يحسب له في قائمة إنجازاته الثرة اكتشاف موقع بيت الشاعر المتنبي في حلب، أما الإفصاح عن عشقه للشهباء فقد رافقه في كل مناسباته وهو القائل :
أهواك ياحلب الشهباء فاقتربي
وعانقيني لأرقى فيك للشهب
لقد تحققت أمنية رجل الثقافة والأدب الباحث والمؤرخ الكبير الدكتور محمد قجة، فقد عانقته الشهباء وضمته بين ضلوعها ليرقى إلى رحمة الله تعالى ورضوانه ولتبقى أعماله في سجلات الوطن أنموذجاً للعطاء الخالد.