الثورة – رشا سلوم:
ربما هو من آخر الجيل الذي حمل البندقية بيد والقلم باليد الأخرى..
لم ينتظر أن يدعوه أحد ما ليهب إلى ساحات النضال من أجل فلسطين.. مذ كان يافعاً اتخذ القرار ويمم شطر العمل الفدائي في لبنان.
عمل في الثقافة والإعلام وعاش حصار بيروت.. وكان مع من خرجوا إلى تونس..
هادي دانيال الشاعر السوري الذي يعيش في تونس الآن أصدر الأعمال الكاملة لإبداعه الشعري عن دار الشنفرى.
في مجلّد أنيق صمم الفنّان التشكيلي السوري “وسيم عبد الحميد” غلافه وأثراه برسوم وتخطيطات تصدرت كلّ مجموعة من المجموعات الشعرية الخمس عشرة التي ضمّها المجلد بعد مقدمة كتبها المبدع التونسيّ الكبير “علي اللواتي”. والمجموعات هي: “كمائن الورد والنبيذ”، “الرياح بين جناحَي”، “ربيع متأخّر”، “خريف من أجل حطّابيّ السماء”، “عندما البلاد في الضباب والذئاب”، في وضح الردى أراقص الجبال”، “الرخام يبتسم لأصابعي”، “أكون بها ولها”، “معراج إلى دمشق”، “عطْرٌ يتفلّت من قبضة الهواء”، “يأتي الذي كان”، “الشمس كنسْرٍ هَرِم”، “شُرفةٌ في الهواء”، “مَقْتَلُ الحصان البرّي في صباحٍ بِلا دِيَكَة”، “كأوركسترا ينتف المايسترو أجنحتها”. وبعد الفهرس في هذا المجلد نقرأ بعض ببلوغرافيا هادي دانيال، يلي ذلك تعريف بالأستاذ علي اللواتي كاتب مقدمة الشاعر وبالمترجم والناقد الفني والرسام والمسرحي والروائي والسيناريست ، وبالأستاذ وسيم عبد الحميد الفنان التشكيلي ومدير الفنون الجميلة في سورية.
ويقع المجلد في 810 صفحات، قياس 16/24سم، ومن مقدمة الأستاذ علي اللواتي التي تصدرت المجلّد في عشر صفحات نقتطف
“… أمّا غزّة فلعلّها الأبرز حضوراً في شعر هادي دانيال عن فلسطين، حيث ظلّت لديه رمزا للكفاح من أجل استرداد الحقّ وأيقونة للصّبر والصّمود أمام الطّغيان. وله من العام 2014 رثاء جميل لأطفال غزّة الشّهداء :
ولكن أطفال غزّة الذين اختطفتهم
استراحة أبديّة
مَن سيوقظهم ؟
كي يستأنفوا رحلة أعمارهم المديدة…
(من قصيد “من سيوقظ الأطفال النّائمين” ـــ 2014)
لكأنّها كلمات تُكتَبُ اليوم! صورٌ حيّة لِما يعيشه أطفال غزّة الشّهيدة الذين يُقتلون الآن بالآلاف تحت قصف إسرائيلي لا يتوقّف على القطاع ويمنع عن أهاليه الغذاء والماء والدّواء بنيّة إبادتهم. كلّ ذلك تحت أنظار أنظمة عربية بعضها متواطئ مع العدو وبعضها الآخر عاجز عن المساعدة الفعلية بما يقيم الأود ويحفظ الحياة. وقد خصّ هادي دانيال غزّة بأشعار كثيرة تؤرّخ لما تقترفه إسرائيل من اعتداءات كلّما عاودها عطشها الحيوانيّ إلى دماء الفلسطينيين، كما تؤرّخ تلك الأشعار لوجعه كإنسان لا يملك لنصرة بني قومه غير الكلمات:
العمارات تهوي على رُكبٍ
وتُكبّر في غضبٍ
والدّخان يعرج صوب السّماء
بأرواح سُكّانها…
كان أطفالها يفتحون العيون على مِخلَبٍ
ويليه رُكامُ
والقذائف كانت تهدهدُ هذا السّريرَ الأخيرَ
فَيَغفوَ الصّغار على وقْعِها
ويطولُ المنامُ…
(من قصيد”دمها يشرق الآن في أفق من حديد”ـــ 2009)
وفي قصيد عنوانه “قلنديا” من العام ،2014، يخامر الشّاعر أملٌ في أن يوقظ غضبُ غزّة وآلامُها العربَ من سباتهم ويخلّصهم من عادة اللّغو في القول والعجز عن الفعل :
غزّة بحر من نجيعٍ
موجه لهب
زبده غضب
ضفّته بركان قهر صامت
حِممه قد توقظ العرب
من السّبات والتّدثّر الأحمق بالخطب…
فأيّ أمل اليوم وغزّة تعيش شهرها الخامس تحت القصف الإسرائيلي؟ لا أمل وقد انحدر بعض العرب إلى أسفل درك من المهانة والعمالة ! لطالما حمل هادي دانيال مأساة القطاع صليبا لا يفارق كاهله وطالما عبّر بشعره عن فداحة المأساة:
والدّماء التي تدخل من باب غزّة زادت ملوحته…
(…)
وتلك الدّماء التي ترفد البحر
من بيت حانون
تصبغ أمواجه…
(من قصيد “ليه يا بنفسج” ـــ 2014).
… ولا يأمن الشّاعر أن يفاجئه هاجس فلسطين في كلّ لحظة بما يجرّه من ضيق ويأس حتّى عند ركونه إلى رؤاه الأقرب حميميّة وتهويماته الأكثر انشغالا بذاته عمّا يدور حوله. وحتّى إن استسلم لنداءات الجسد والحواس الملتهبة، فإنّ ذكرى الأرض السّليبة والحقوق الضّائعة تظلّ تخامره لتقضّ مضجعه فيصرخ :
إسرائيل … إسرائيل متى تُقْلِعِينَ أو تُقتَلَعين من أمعائنا؟
هل يطلع من أعماق أساطيرنا
عِملاق يلقي بك من أعالي سور عكّا
إلى هاوية الخرافة ؟
جفّت ينابيع دمنا
ونيوبك الفولاذيّة حكّت عظام الرّوح مُتلمِّظة
فهل نندفِعُ إلى حلقك الواسع
مئات الملايين دفعة واحدة
وتغصّين بنا حتّى الاختناق ؟
(من قصيد “البحر فراشي والصّحراء وسادتي” ـــ 2009)
تلك هي فلسطين ومدنها القدس وعكّا وغزّة وأريحا ترتسم في وجدان الشّاعر ضمن جغرافية روحية تأبى معالمها وصورها التّلاشي فيخاطبها بوحاً كما يخاطب العشّاق أحبّتهم :
أيّ سِحرٍ على طرقات أريحا ؟اسمها
يخفق القلب حين أشكّلُ أحرُفَهُ
وحرارة جسمي تعلو !
كأنّ جناحيْ روحي
قد علِقا نجمةً من قُراها
وكأنّي طريح هواها…
سقطْتُ جريحا :!
(من قصيد “نجمة أريحا” ـــ 2008)
الحقيقة إنّ شعر هادي دانيال مثل نهر قد يغالب سيلُه الجارف مَن يسبح فيه فيغلبه فلا يقف على كلّ لطائفه ورموزه، غير أنّه يظفر منه بصورة أصدق ما تكون عن قائله. إنّه نبع ثرّ يندفع دون توقّف كاشفاً عن أحوال تتوزّعُها رغباتُ النّضال والعشق والجدال والسّخريّة مع أسى شفيف يسربل ذلك الشّعر المشبع غربةً وحنينا إلى الأهل والوطن؛ فكم يشبه هادي دانيال قصيده ؛ لكأنّ ذاته وشعرَه مرآتان متناظرتان تنعكس إحداهما على الأخرى إلى ما لا نهاية”.