الثورة – ديب علي حسن:
تشكل تجربة توفيق أحمد الشعرية محطة متميزة في المشهد الشعري السوري والعربي، وقد استطاع أن يفرض ظلالها الجميلة على تجارب كثيرة لكنه بقي منفرداً بدهشة القصيدة وجمالها.
كثيرة هي الدراسات النقدية التي تناولت إبداع أحمد.
نشير اليوم إلى دراسة ومختارات من شعره صدرت عن اتحاد الكتاب العرب تحت عنوان (صهيل الذرى) أعدها واختارها الناقد نذير جعفر.
وقد صدرت بالتعاون بين اتحاد الكتاب العرب والجمعية العمانية للكتاب والأدباء ودار نشر “الآن.. ناشرون موزعون”.
ويُعد هذا الكتاب أولى ثمار تعاون خلاق ورائد، وهو يلقي الضوء على تجربة شاعر وصفه نذير جعفر بأنه عصيّ على التصنيف، فللمرأة حضورها الكثيف في شعره حبيبة وصديقة وأمّاً، لا من باب الغزل أو التحبب وحدهما، بل بوصفها ملاذاً وأُسّاً لوجوده وكينونته، ومعادلاً موضوعياً لتجربته الانفعالية العميقة بكلّ ما فيها من غبطة وتحدّ وشجن وانكسار، تتجاذبه في مختلف حالاته، شأنها شأن الطبيعة في مجمل عناصرها وحالاتها التي لا تفارقه بأشجارها وطيورها وغيومها وأمطارها وأزهارها ورعودها، كما لو أنها تعكس ما يعتمل في دواخله القصيّة من انفعالات شعورية متباينة لا تركن إلى حال.
تؤكد هذه المختارات الجميلة أن توفيق أحمد لا يكتب الشعر فحسب، إنما يعيشه ويتنفسه في كل لحظة، فقصائده انعكاسات لهواجسه المتمثلة في محورية المرأة في حياته وتوحده فيها عاشقاً وصديقاً حد الوله والذوبان والتماهي، وفي تلازم همه الوطني والقومي والإنساني وتناغمه في التعبير عن مشاعره ورؤيته وفكره لاسيما في القصائد التي يبوح فيها بحبه لدمشق وبغداد وصنعاء وبيروت، والرهان على المستقبل بانتصار الحق والجمال وهزيمة قوى الاحتلال والشر والعدوان.
وحسب جعفر فإن توفيق أحمد؛
لا يكتب الشعر فحسب إنما يعيشه ويتنفسه في كل لحظة فتقرؤه في عشقه وولعه وحديثه وذكرياته وموسيقا صوته وحركة يديه ووقع خطواته وعمق تأمله ورهافة وداعته وقسوة عذاباته وحكمة صمته وهدير قلقه ووحشة عزلته وزهده في الدنيا وعلاقته الشفيفة بأسرته وأصدقائه وبالياسمين الدمشقي الذي يخضب حروفه ويفوح عطره كلما لامسه قلمه وباليمام الذي يحط ويهدل على كتفيه وبترانيم الحنين إلى طفولته الشقية وشغفه بقريته الوادعة التي تسكن أعماقه كقدر فلا تفارقه أينما حل وارتحل وإنما خلق شاعراً أو قل هو الشعر وقد وجد ضالته فيه.
ويضيف جعفر : شاعر يحار المرء إذا ما خير أن يختار من جميل شعره في دواوينه السبعة ما يرضيه ويرضى ذائقة القارىء لأن قصائده في مجملها نفثات روحه ومزق قلبه وصور حياته وشهقات آلامه وإيقاعات غبطته عاشقاً مولهاً وحالماً منكسراً عربي الانتماء والمبدأ إنساني الوجود والهدف كوني الرؤى والرؤيا متيماً بتأنيث الطبيعة زهراً ومطراً وعشباً وطيراً، كما أن كل قطرة ماء وكل وردة بل وكل عاصفة ليست سوى أنثى عاشقة تثير الشجن وتوقظ المشاعر من غفوتها والروح من تيهها والكلمات من سباتها لتملأ الدنيا حباً وشعراً وغناء.
يقع الكتاب في ١٨٠ صفحة من القطع الكبير.. ويقدم أكثر من ٤٠ قصيدة للشاعر بين قصيدة نثر وتفعيلة وموزون.
ولعل أجملها تلك القصيدة المعنونة (نشيد لم يكتمل) فهي تذكرنا بجماليات قصيدة بدوي الجبل الدمية المحطمة.