د. محمد الحوراني:
مع انتهاء المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل انتخابات حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية السبت ٤-٥-٢٠٢٤ يكون الستارُ قد أُسدِلَ على تجربةٍ مختلفةٍ من حياة الحزب، وهي تجربةٌ جديرةٌ بالعناية والاهتمام وبالأخصّ فيما يتعلّقُ بالجانب الحيويّ الذي أخصبَهُ في جسد البعث من جهة، وأحدثه بين كوادره من جهة أخرى بعد أن اعتقد البعضُ أن “السّوسَ” نخرَ جذعَ شجرته الباسقة، أو أنه دخل في مرحلة الموت السريري، لا بل إن البعضَ كان ينتظرُ لحظةَ الدّفن، بدل أن يقدّم أفكاراً ورؤى من شأنها أن تعيدَ الألقَ إليه، وتنفخ الحياةَ بكامل بهائها في مفاصل البعث.
وإذا كانَتِ التجربةُ ( الانتخابيّةُ) الجديدةُ قد حملت بعض السّلبيات في مرحلتيها الأولى والثانية، وبشكل أكبر ربما قبل مرحلتها الأخيرة، فإن هذا يؤكّد أن البيئةَ الديمقراطيّةَ والتجارب الانتخابية الحزبية تحديداً ماتزال بأمسّ الحاجة إلى مصابيح الوعي لتهيئة البيئة الخصبة المناسبة لها، والبعيدة عن التكتلات والتحزبات والانحياز إلا إلى الوطن وإلى الأجدر من المرشحين الذين يسعون إلى التغيير نحو نهضة حقيقيّة بعيداً عن شعارات فارغة ومصالحَ ضيقةٍ وولاءاتٍ لا تمتّ إلى الوطنيّة بصِلةٍ، وهي سلبياتٌ معشّشةٌ في معظم التجارب الديمقراطية وفي معظم الانتخابات التي تجري في العالم، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية التي تقدّمُ نفسَها على أنها الواحةُ الغنّاءُ للديمقراطية، وهو ما تؤكّدُهُ الدّراساتُ والأبحاثُ الكثيرة المنشورة في الولايات المتحدة وخارجها ومنها كتاب ” غريغ بالاست ” الموسوم ب: أفضل ديمقراطية يستطيع المالُ شراءَها.
نعم لقد نجحَتِ التجربةُ الانتخابيّةُ الأخيرةُ بتحريك الركود المزمن في الحياة الحزبية البعثية، وهو مايجب أن ينسحب على غيره من الأحزاب الأخرى التي أصابها التّرهّلُ وكاد يقتلها الجمودُ نتيجة خمولِ الفكر وهشاشة الممارسة، ورفض “أصحابها” القائمين عليها لأيّ اقتراحاتٍ أو أفكارٍ ترتقي بشأنها وتعمل على تطويرها وازدهارها.
أخيراً لابدّ من القول: إن المسؤوليةَ الملقاةَ على عاتق القيادةِ البعثيةِ الجديدةِ المنبثقةِ عن الانتخاباتِ الأخيرةِ كبيرةٌ جدّاً، لاسيما لجهة إعادة تأهيل الكوادر البعثية بطريقة تساعد بشكل علميٍّ وعمليّّ منظّمٍ على بناء الإنسان في مرحلة ما بعد الحرب، وكذلك العمل على الفصل بين الحزب والسُّلطات بأشكالها كافة، وتهيئة الأجواء المناسبة لاستكمال مرحلة منحِ الاستقلالية المسؤولة للمنظّماتِ والاتحادات والنقابات، وتمكينها من الحضور القوي والفاعل في المجتمع السوري، وهذا من شأنه أن يذكيَ شعورَ الانتماء ويعمل على تعزيز الهوية الوطنية عند مختلف أبناء الشعب السوري، وهو ما لا يمكن أن يتحقّق إلا من خلال نشر العدالة بين كوادر البعث وجمهوره خاصة، وبين عموم أبناء المجتمع السوري، وهذا يعني إعادة النظر بموارد الحزب واستثماراته، وهي الموارد التي يجب الإفادة منها بشكل إيجابي وبما يعود بالمنفعة والفائدة على عموم الشعب السوري، لا على مجموعة من المتحكّمين بمراكز القرار والقوة فيه.
إن ماقدمه الرفيق الأمين العام للحزب الرئيس بشار الأسد خلال لقاءاته مع المهتمين والمعنيين في الشأن الحزبي بمختلف تخصصاتهم العلمية والأكاديمية، يجب أن يصبحَ منهجَ عمل واستراتيجية نهوض وارتقاء في مسيرة حزب البعث المقبلة، ومن الواجب علينا جميعا الإفادة من السلبيات التي رافقت المراحل الانتخابية وسبقت تشكيل القيادة المركزية الجديدة، وهي القيادة التي ستحمل على عاتقها مسؤولية التماهي مع المجتمع والدخول في عمق المشكلات التي يعاني منها بعيداً عن غواية السلطة وترفها وملذاتها، وسعياً نحو آفاقٍ أكثرَ اتساعاً وأنضجَ فكراً وأبهى ارتقاء.