مدينة القدس وموقعها الروحي واستهداف هويتها

تتميز مدينة القدس بأهميتها لدى جميع الديانات السماوية ولكنها تحظى بمكانة خاصة عند العرب والمسلمين فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وأوصى الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بشد الرحال إليها بعد المسجد الحرام في مكة والمسجد النبوي في المدينة المنورة كما تتمثل أهمية القدس الدينية في كونها مسرى الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام في معجزة الإسراء والمعراج إذ صعد منها إلى السماء وصلى بالأنبياء السابقين كما في قوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع العليم وتكمن اهمية القدس عند المسلمين في أنها تضم معالم مقدسة مثل المسجد الاقصى المبارك وقبة الصخرة التي تم بناؤها عام 691 م على الصخرة التي صعد منها الرسول عليه الصلاة والسلام إلى السماء وفيها أيضًا الحائط الذي ربط عنده دابته التي ركبها ليلة الإسراء والمعراج وهي البراق وسمي الحائط على اسمها حائط البراق وزاد في أهمية القدس فتحها على يد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب في السنة الخامسة عشرة للهجرة حيث دخلها سلماً ودون قتال فقام البطريرك صفرنيوس بتسليمه مفاتيحها وكتب بينه وبينهم وثيقة تاريخية أطلق عليها العهدة العمرية وإلى جانب أهمية القدس للعرب المسلمين لها أهمية ومركز متميز لدى العرب المسيحيين حيث يعتقد المسيحيون أنها تقع على تلة الجلجثة حيث صلب السيد المسيح عليه السلام وفق الرؤية المسيحية ودفن فيها وقام من الموت وفيها ايضًا كنيسة القيامة وبالقرب منها مدينة بيت لحم فالقدس بهذا المعني فيها تكثيف للديانات السماوية والعاصمة الروحية بل الوطن الروحي لمئات الملايين من مسلمين ومسيحيين.

وبالعودة لتاريخ المدينة تثبت كل الدراسات التاريخية والأركولوجية أنه يعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة وهي تعد بذلك من أقدم المدن في العالم وتدل الأسماء الكثيرة التي تطلق عليها على عمق ذلك التاريخ وقد أطلقت عليها الشعوب والأمم التي استوطنتها أسماء مختلفة من الأموريين إلى الكنعانيين الذين هاجروا إليها في الألف الثالثة قبل الميلاد وسموها أور سالم أو ساليم أي مدينة الإله ساليم إلى يبوس وصولاً لألياء ثم القدس ويزعم اليهود بلا دليل أن القدس كانت عاصمتهم التاريخية لأسباب سياسية ودينية وبحسب الروايات اليهودية المزعومة فإن القدس كان بها الهيكل او هيكل سليمان أو لنقل بيت الرب يهوه الذي هدم مرتين على أيدي البابليين والرومان قبل خمسمائة وخمسين سنة من الميلاد على يد نبوخذ نصر وعلى يدي تيتس او طيطس الروماني سنة 70 للميلاد كما يوجد فيها ما يدعونه حائط المبكى الذي يدعون أنه ما تبقى من هيكل سليمان ويعتقد اليهود انه يوجد داخل هيكل سليمان قدس الأقداس وهو أكثر المواقع قداسةً عند اليهود حيث وفقهم يوجد داخله حجر الأساس الذي خلق منه العالم وأنه الموقع الذي كان سيضحي فيه النبي إبراهيم بابنه وفق السردية الدينية اليهودية ومن هذا الموقع الديني اشتغلت الصهيونية الدينية استثماراً في هذا الرأسمال الرمزي بوصفه عنصر تحشيد ديني للدفع بهم للتهجير والهجرة والاستيطان في فلسطين ..ومما يتهدد مدينة القدس اعتراف بعض الدول بها عاصمة موحدة للكيان الصهيوني المحتل فالقدس هي العاصمة التاريخية لدولة فلسطين ومع أن قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في 29 تشرين ثاني 1947 قد أشار الوضع الخاص لمدينة القدس تحت وصاية الأمم المتحدة ومع أنها قسمت إلى شرقية وغربية إلا أن أي اعتراف بالقدس بعد احتلالها في عدوان حزيران 1967 يعد مخالفاً لميثاق الأمم المتحدة وقرار التقسيم رقم 181 وكذلك يخالف القانون الدولي الذي يرفض ويحرم احتلال أراضي الغير بالقوة وكذلك يخالف القرارين 242 و 338 القاضيان بانسحاب اسرائيل من الأراضي التي احتلت بالقوة في عدوان الخامس من حزيران 1967 وكذلك مخالفا ً لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها مدينة القدس اضافة إلى أن الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان ينسف فكرة عملية السلام من أساسها في ظل الحديث عما سمي حل الدولتين من هنا يصبح اعتراف اي دولة بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني مخالفة صريحة لميثاق الأمم المتحدة وقراراتها ومخالفة صريحة لمبدأ عدم جواز ضم الأراضي بالقوة .

ومنذ احتلالها تعرضت المدينة للتهويد الممنهج، والتهويد : هو مصطلح يصف ما يعتبره البعض المحاولات المستمرة من الاحتلال الصهيوني لنزع الهوية الإسلامية والمسيحية التاريخية عن مدينة القدس وفرض طابع جديد عليها وهو الطابع اليهودي ومنذ قيام جيش الاحتلال الصهيوني باستكمال احتلال المدينة في حرب حزيران 1967يعمل الكيان الصهيوني جاهداً للسيطرة عليها وتغيير ملامحها بهدف تهويدها وانهاء الوجود العربي فيها وقد استخدمت لأجل ذلك العديد من الاجراءات ضد المدينة وسكانها حيث كان الاستيطان في المدينة والأراضي التابعة لها أحد أهم تلك الوسائل فسعى الكيان الصهيوني خلال العقود الماضية لاستكمال مخططه الاستيطاني الهادف للسيطرة الكاملة على المدينة حيث عمل على توسيع ما يسمى بحدود القدس شرقاً وشمالاً وذلك بضم مستوطنة معاليه ادوميم التي يقطنها حوالي 20 ألف نسمة كمستوطنة رئيسية من الشرق إضافة للمستوطنات العسكرية من الشرق والشمال ما أدى إلى مضاعفة أعداد المستوطنين وتقليل نسبة السكان العرب الذين يشكلون ثلث سكان القدس أي حوالي 220 ألف نسمة بما فيها الجزء المضموم 380 ألف نسمة مع العلم أن عدد المستوطنين في القدس الشرقية أو شرقي القدس يساوي عدد المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة 180 الف مستوطن والجدير بالذكر أن عدد المستوطنات في القدس حسب إحصائيات مركز أبحاث الأراضي هو 29 مستوطنة 14 منها في الجزء المضموم من القدس أي ما يسمى حدود القدس الشرقية ويمكن إجمال الآثار المترتبة على الاستيطان اليهودي في القدس بما يلي :

1- مصادرة آلاف الدونمات من الأراضي التابعة للقرى التي أقيمت عليها المستوطنات

2-تطويق التجمعات السكنية الفلسطينية والحد من توسعها

3-تهديد بعض التجمعات السكانية الفلسطينية بالإزالة

4- إبقاء سكان القدس وضواحيها العزل بحالة خوف ورعب وعدم استقرار

5-عزل مدينة القدس وضواحيها عن محيطها الفلسطيني

6-فصل شمال الضفة عن جنوبها والتحكم بحركة الفلسطينيين بين شمال الضفة وجنوبها

7- قطع التواصل الجغرافي بين أنحاء الضفة الغربية وتقسيمها إلى جغرافيا متناثرة والحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة

8- تشويه النمط العمراني الرائع للقدس العتيقة والقرى المحيطة بها

9- هدم المسجد الأقصى المبارك وإقامة الهيكل المزعوم مكانه وبالتالي إزالة كل أثر إسلامي عن مدينة القدس.

ومن معركة الفرقان 2008 إلى معركة حجارة السجيل 2012مرورًا بالعصف المأكول 2014 ثم سيف القدس 2021ثم وحدة الساحات 2022 وأخيرًا وليس آخرًا طوفان الأقصى التي هي معركة مختلفة عن كل ما سبقها بوصفها هجوم من خارج الأرض المحتلة باتجاه قوات الاحتلال وبهذا الزخم وعديد الضحايا فتسمية المعركة مرتبط بمعنى الحرب وهدفها الأساسي المسجد الأقصى وما يتعرض له من تدنيس ومحاولات تقسيم مكاني وزماني حيث حاولت المقاومة الفلسطينية ردع الإسرائيليين عن أفعالهم تلك بكل الوسائل ودون جدوى وبالتالي كانت هذه المعركة وبهذه التسمية مختلفة عن الردود السابقة وتيمنًا بالحالة الثورية التي كانت عام 2021التي كان هدفها أيضًا المسجد الأقصى فالمسجد الأقصى له مكانة قدسية ودلالة نفسية في ضمير كل عربي ومسلم حيث يتشكل إجماع على رفض المساس بقدسيته ورفض الظلم الواقع على أهل القدس على وجه العموم إضافة إلى أن اختيار الأسماء في المعارك الاستراتيجية له دلالة نفسية ومعنوية وتحشيدية كبيرة في نفوس المقاتلين والشعوب على وجه العموم وكذلك يشكل اختيار الاسم رسالة واضحة للعدو الذي يمارس الانتهاكات بحق القدس والأقصى بأن ما جرى ويجري هو في جانب منه رد على أفعاله وسياساته واعتداءاته.

وخلال حوالي عشرين عامًا من استزراع الكيان الصهيوني في فلسطين قدمت حكومته نفسها للعالم على أنها دولة علمانية ودولة مواطنين وحدث نوع من التفاهم بين التيار العلماني والديني سمي الستاتيكو أو الوضع القائم وأطلق عليه البعض اتفاق البغاء بحيث لا يتدخل الدينيون بالحياة السياسية والعلاقات الخارجية وتترك لهم بعض القضايا في الشؤون التربوية والتعليمية وإقامة المستوطنات وعدم خدمة الحريديم في الجيش وقضايا تتعلق بالحياة العامة إلى درجة أنه لم يوضع دستور للدولة اليهودية لأن ذلك سيحدد هويتها بوصفها دولة علمانية وهذا يزعج ويستثير ردة فعل التيار الديني المتطرف ومؤسسة ابراهام كوك وابنه ومائير كاهانا وغيره وبقي هذا الوضع قائمًا حتى حرب 1967 حيث استثمر التيار الديني ذلك الانتصار بوصفه نصراً إلهيًا وبتدخل من الرب يهوه واستجابة للسياسة الموالية لذلك التيار تم ضم مدينة القدس واعتبارها عاصمة موحدة وتنامى دور التيار الديني الذي تحول من هامش الحياة السياسية إلى المركز وصولاً إلى السيطرة شبه الكاملة على المشهد ولاسيما بعد حرب تشرين 1973 حيث أعقب سقوط حكومات حزب العمل وصول التيار القومي المتطرف من بيغين إلى شامير وصولاً لمقتل من وقع اتفاقية أوسلو إسحق رابين مطلع تسعينيات القرن الماضي والذي اعتبر اغتيالاً وقتلاً لاتفاقية أوسلو ورفضاً لقيام أي دولة فلسطينية ومع وصول شارون ونتنياهو والتحالف القائم راهناًً بين التيار الديني المتطرف والتيار القومي المتطرف والذي يسمى تحالف المولوتوف اتسعت مساحة الاستيطان والتهويد والقضم ويتم التصريح علناً بإزالة كل أثر إسلامي أو مسيحي بما في ذلك هدم المسجد الأقصى وإزالة قبة الصخرة لتصبح القدس مدينة يهودية خالصة، وخطورة ذلك أنه أصبح سياسة معلنة للحكومة الإسرائيلية وثمة ما يجري على الأرض لتنفيذها وربط ذلك باللاهوت اليهودي والسردية الدينية وأن القيام بذلك يمهد لعودة المسيح المنتظر، من هنا يمكن ادراك حجم المخاطر التي تهدد هوية المدينة وتاريخها ورمزيتها ما يستدعي مواجهة حقيقية لذلك من كافة الدول العربية والإسلامية والكنائس المسيحية وأحرار العالم والحاجة لدعم أهالي القدس وتمكينهم ودعم وتعزيز الدور الذي تضطلع به مؤسسة القدس الدولية في هذا المجال والذي ساهم ويساهم في الحفاظ على هوية المدينة وسكانها وتاريخها وثقافتها.

 

 

 

آخر الأخبار
إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها جرائم الكيان الإسرائيلي والعدالة الدولية مصادرة ١٠٠٠ دراجة نارية.. والجمارك تنفي تسليم قطع ناقصة للمصالح عليها إعادة هيكلة وصيغ تمويلية جديدة.. لجنة لمتابعة الحلول لتمويل المشروعات متناهية الصِغَر والصغيرة العقاد لـ"الثورة": تحسن في عبور المنتجات السورية عبر معبر نصيب إلى دول الخليج وزير السياحة من اللاذقية: معالجة المشاريع المتعثرة والتوسع بالسياحة الشعبية وزارة الثقافة تطلق احتفالية " الثقافة رسالة حياة" "لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى