الملحق الثقافي- أيمن المراد:
لم يسبق في تاريخ هذه الأمة أو هذا الشعب أن يوقع اليهود الصهياينة شر المصائب وأقبح التنكيل وإهراق الدماء البريئة كما فعل أولئك الذين جاؤوا إلى فلسطين، وأعلنوا فيها قيام هذا الكيان «إسرائيل» على أسس من الفظائع والتشريد والتقتيل.
بدؤوا بالتظاهر بالمذلة والمسكنة، مدعين أن دخولهم هو لزيارة آثار أسلافهم تحت مسميات مختلفة، وحائط المبكى؛ الحائط الغربي من المسجد الأقصى والصخرة الشريفة كان يمثل مهزلة تراجيدية سخيفة، أي إنهم كانوا يذرفون الدمع على مجد بائد، وأمل زائف زال تحت حوافر الجيوش الرومانية، التي أخذت معها عوامل الانقراض والتفسخ التاريخي.
الدولة الرومانية أدركت مدى خزعبلاتهم ونياتهم، فهدمت أماكنهم، وخربت هياكلهم، وأمعنت بجموعهم تنكيلاً وطرداً.
والمسيح عليه السلام عندما اطلع على تلاعبهم بحقوق الناس طردهم، وحطم واجهات الاستبداد النقدي من فضة وذهب، التي كانت عبارة عن بؤرة تلاعب وغش وخداع، وأطلق عليهم دعوته»اذهبوا تنتشرون في بلاد العالم ومن حيث لا ترجعون».
والذي قام به الرومان بعد ذلك من تضييق وملاحقة لم يكن إلا تنفيذ الأمر الذي أصدره السيد المسيح عليه السلام، ورد فعل على التلاعب والتآمر الذي كانت تقوم به الجماعات اليهودية من حين لآخر.
وعندما جاء العرب واستولوا على فلسطين فتحوا أبوابها لعودة اليهود، ورحبوا بهم، وأطلقوا لهم جميع الحريات، وشاركوهم في إدارة الدولة العربية، وأعطوهم مراكز عليا في الدولة، وأكرموهم إكرام المواطن، وباركوا لهم أعيادهم وطقوسهم وعاداتهم، حتى أصبحوا في عطف الدولة العربية على جانب كبير من العز والترف.
على أن العرب لم يوجهوا أي إساءة إلى اليهود أو غير اليهود في بلادهم كما حدث في ألمانيا وروسيا وبولندا وفرنسا بل إنهم يلاقون كل لاجىء، أو مهاجر دخل إلى بلادهم دخولاً شرعياً برحابة صدر وضيافة بيت.
وعندما نقارن ما فعله اليهود بتشريد العرب الفلسطينيين وسلب ممتلكاتهم وبين ما نحسن ـ نحن ـ من المعاملة إلى الأجانب بيننا، نجد أن عملنا كان عملاً إنسانياً يدفعنا إليه عامل وراثي يجري في عروقنا تاريخياً، وإن عمل الصهيونية، هو عمل إرهابي وحشي تدفعها إليه مخططات بروتوكل صهيون في الاستعمار والاغتصاب، ونحن في تاريخنا وحضارتنا لم نعرف الاضطهاد ولم نجربه إلا ما حدث في سقوط إسبانيا، وفي الحروب الصليبية، فقد بدأ العداء، وبدأ الاستعمار، وبدأ الاضطهاد الذي يسير مع سياق الزمن، وفي عروق الأجيال الغازية؟
كانت فلسطين أرضاً مقدسة ـ وما زالت ـ وأرضاً للسلام، أما الآن فقد أصبحت أرضاً ملوثة بأقدام الغاصبين من الصهاينة، وأصبحت مقبرة للسلام وحقوق الشعوب.
قد تكون الصهيونية قد انتصرت في إنشاء كيان «دولة» في فلسطين على حساب العرب، لكن هذه الدولة ستكون دولة إجرام، ودولة ستعيش على وقع الخوف الداخلي، وقد تكون الحكومات الأجنبية التي ساعدتها قد انتصرت أيضاً على الشعب العربي الذي يتعرض دائماً إلى الكبح والتأخير الذي تفرضه عليه ضروب الاستعمار والإقطاعية الأجنبية، ولكننا نعتقد أن «إسرائيل» لا يمكن أن تنتصر على شعب يتوثب للثأر لإعادة حقه المغصوب.
وقد أشار المؤرخ الكبير فيليب حتي إلى أن اليهود كان عهدهم أيام الدولة العباسية ـالعهد الذهبي ـ عهد رخاء وحرية وصعود، وأشار إلى أنه في أعياد المسلمين،كان الحاخام الأكبر يأتي على جواد أبيض يحرسه فريق من الجانبين للأبهة والجاه، وكان حرس الدولة يؤدي له التحية، فيسير موكب الحاخام في طليعة يهودية من الحرس الخاص، حتى إذا بلغ منصة العرش التي كان يجلس عليها الخليفة، نادى مناد بوصول الحاخام على متن فرس شهباء قائلاً:أفسحوا المجال أمام السيد الحاخام ليقوم بالتهنئة إلى الخليفة أمير المؤمنين «انتهى الاقتباس».
وسبب ذكر هذه الحادثة ليتضح مقدار الحرية والتكريم التي كانت تتمتع بها الجماعات اليهودية في الدولة العربية، وخاصة في بلاد الأندلس، حيث كان علماؤهم وتجارهم وأفرادهم يعدون مواطنين صالحين لا فرق بينهم وبين أي موطن عربي أو مسلم.
ولقد أبرز العرب مكانة كبيرة لعلماء اليهود والفيلسوف العلامة ابن ميمون سيمونيدس بحيث جعلوا مركزه واحترامه فوق احترام علماء العرب الأصليين.
هذه المقدمة الطويلة نوعاً ما لنصل إلى جوهر سؤالنا المحوري:
إن العرب لم يحرمهم الله فرصة الانتصار الذي استبدلوه بالانكسار، الفرصة الأولى سنة 1939 حيث كان الثائرون يقضون مضاجع الجيش الإنكليزي، ألقى قادة الثوار أسلحتهم في قصر المندوب السامي استعداداً لمحاربة ألمانيا وحلفائها، والفرصة الثانية عندما حطم الجيش الأردني القوات اليهودية وجاءت الهدنة المشؤومة.
إن التشهير بالذين خانوا فلسطين وباعوها وأذلوا الكرامة العربية، وعرضوا أبناء فلسطين للتشريد والجوع، لا يجدي نفعاً، غير أن الإشارة إلى العبرة قد تؤدي إلى النفع بالتجربة لأن الاسم العربي أصبح مضغة للأفواه، تتناقل الأجيال بالمرارة والحزن لهزيمة صنعت بأيدي أبناء هذه الأمة وتواطؤ من أعدائها، فلم يكتف أعداؤنا باستخدام الأسلحة وفرض الانتقام ونحن نيام، بل أمعنوا في الجسد العربي أبشع أنواع الدعاية الدنيئة للوصول إلى جسد منهك ومريض معنوياً وعضوياً.
هنا يجب علينا أن نتساءل من هم الأفراد من المثقفين الذين يستعدون للموت من أجل إعادة فلسطين؟ ومن أولئك الذين يتحفزون للذود عن الكرامة العربية والدفاع عن ذلك المجد في تاريخ الحضارة العربية كم فعل الأجداد الذين خلدوا البطولات العربية، والإنصات لوقع حوافر الخيل يوم كانت جحافل الجيوش تسير بصف واحد للقتال مع أهازيج الحرب والقتال، قد يقال ذهبت أيام الرمح والسيف والخيل، وبطل مفعولها أمام الأسلحة الفتاكة، مع العلم أن المقارنة لا تكون بين آلة وآلة، بل تكون باليد التي تحرك الآلة، وبالإيمان الذي يدفعها من الخلف إلى النصر.
وإذا قيل إن المال هو أساس التقدم والاستعداد، فالعرب لا ينقصهم المال فهم يملكون من المال والثروة ما يجعل منهم نداً يحسب له ألف الحساب، فلماذا استطاع هؤلاء إنشاء كيان لهم تحت مسمى «دولة»، وٌقد أصبحت من أقوى الدول في الشرق، بعد أن كانوا جماعات مشتتة في أصقاع الأرض، ونحن ـ في أغلب الحالات ـ لا نستطيع على الأقل حماية أملاكنا وتاريخنا وأطفالنا من اعتداءاتهم!.
العدد 1190 –21-5-2024