الملحق الثقافي- رفاه الدروبي:
المرأة ملهمة الإبداع وأيقونة اللوحات. إنَّها مرسومة بشغاف قلوب حانية كالأرض، وملهمة المبدعين ورفيقة دروبهم في جلِّ أعمالهم.
إنَّها أمي
التشكيلي حسان أبو عياش رأى أنَّ الفنان يتَّجه في مواضيعه الفنية حسب حالته الاجتماعية وثقافته. وفي كلِّ أعماله لم يجد في المرأة مشكلة تحتاج لحل، فالمرأة والرجل سواء في كلِّ ما تتطلبه الحياة من حقوق وواجبات. إنَّها حرَّة وغير مضطهدة ويعتبر نفسه مديناً لوالدته سعدى الغريب «أم حسان» في حبَّه للفن التشكيلي، فمن الطفولة كان معجباً بها ترسم لوحاتها الزيتية بكلِّ شغف وإتقان وتلقى لوحاتها إعجاب الجميع، وفي أول أعماله كان عبارة عن منظر من لبنان، عُرض في المعرض السنوي في المتحف الوطني عام 1960 تصدَّرت إلى جانبه لوحة لوالدته بالاسم نفسه، لافتاً إلى أنَّه كان ذلك قبل دخوله كلية الفنون كونها معلمته الأولى في الفن التشكيلي والحياة. ومع أنَّه اتبع بشكل عام الأسلوب التجريدي الهندسي، واهتمَّ بالتراث العربي الزخرفي في أعماله الفنية من فترة طويلة، وحاول تطويره نحو الفن المعاصر، ولكن أحياناً يتطرَّق لدور المرأة في أعماله باعتبارها ندّاً للرجل، فيظهرهما متساويين في القوة والأهميَّة، ولكلاهما خصوصية حدَّدتها الطبيعة. إنَّهما متساويان تماماً في تلقِّي مشاكل الحياة وتعقيداتها، وربَّما في إيجاد الحلول لها، ومع ذلك فهما يتناقشان في حوار دائم وأزلي، وأحياناً يتطرَّق لنساء بشكل أسطوري كما في لوحات العرَّافات، وربَّما كانت المهنة ذاتها مرتبطة بالمرأة منذ القديم، أو بأسطورة «بجماليون»، أو بدورها في نشر مشاعر الفرح والسعادة بالحياة كما في لوحة أحلام المدينة.
عين ماء وضوء ونجمة
وأشار الشاعر جابر أبو حسين الطويل إلى أنَّه لولا المرأة لما كنَّا ولما كان الإبداع كونها مصدر خصوبة قصيدته والعالم. إنَّها الأرض حبيبته وأمه ولايمكن أن يتخيَّل نصاً جميلاً مشرقاً حيَّاً بلا حضور المرأة ملهمة ويداً حانية على كتفه وعين ماء وضوء على جانبيه. وفي كلِّ ما كتب كانت النجمة حاول أن يلمسها بكامل طفولتها وطموحها وطاقتها، وكانت الحديقة وارفة الظلال مَنْ أظلَّته من حرارة الكتابة الحارقة وأدخلته نارها، وما إن خرج منها ببرد وسلام حتى تفتَّحت قصيدته أزهاراً وزعتراً برياً ومساكب حبق ونعناع تسكنها بكلِّ تحولاتها وطقوسها وعهودها منذ انبثاق آلهة الحب والخصوبة إلى كل العاشقات اللواتي سفحن قلوبهنَّ على روابي الجمال، إلى كلِّ الصبايا اللائي زرعن وردة في كتابه وعنباً على شفاهه وأشجاراً دائمة الخضرة في واحات قلبه وأنهار قلقه وأحزانه ودروب غربته الموحشة.
كما أكَّد الشاعر جابر أنَّ المرأة في الشعر تُحرِّك القصيدة ببنائها، وتستدعي شياطينه وملائكته وما ملكت أيمان سطوته من أجل الخروج إلى الشارع والمسير الليلي تحت ضوء القمر والصعود فجراً إلى قمم الجبال ونداء عشتار وفينوس وإنانا وكلِّ قادرة قديرة في خلق الإنسان، منوِّهاً إلى أنَّها الشعر تسير خلف القصيدة الذاهبة إلى جبهات القتال. لا تعبأ بعاذليها ولا تكترث لصخور ترميها الرقابة في الطريق. تذهب بكامل وردها وقهوتها وأهازيجها وزغاريدها المنطلقة في الفضاءات عصافير قمح ويمام سلام، لذا أحبَّ الشاعر المرأة الطالعة شمساً فوق تلاله لتعيد تركيب يخضور القصائد كلما عصف الحنين وتعتَّقت جرار السنين.
الحرية في الإبداع
كما رأت التشكيلية ليلى طه أنَّ دور المرأة في التشكيل بصفة عامة يعتبر ترسيخاً للحرية في الإبداع والانعتاق من القيود الموروثة في التقاليد الحادَّة أمام وصول الفكر الإبداعي المتحرر من المجتمع الذكوري الشرقي المتعارف بأنَّ الوجه الأمثل للفن يكون الرجل والمأخوذ من الفكر الإبداعي لفناني عصر النهضة. من هنا تكون من الأهميّة بمكان التحرر من نظرة المجتمع إلى الفن على أنَّه محصور بالرجل المساهم بالمزيد من الإحباط والانزواء، مشيرة إلى أنَّ للفن دوراً مهماً كونه لغة بصرية وجزءاً أساسياً من الحياة ولاحدود له ولافواصل لأنَّه يُرسخ المفاهيم والدلالات والمعاني الروحية لخلق الحوار الحميمي التوَّاق لزرعٍ في المنحنيات والمفردات التشكيلية في أعمالها كالحبِّ والعاطفه، وروح العطاء كونها موجودة في مجتمع لا يتجزأ عن الآخر، وتعيش هاجس التوازن في الإبداع لمواجهه التناقضات والتقلبات لما تعاني منها اليوم وخلق التوازن بين المجتمع والأسرة في التلاقي، وتعزيز روح الجماعة، وارتباطه بأرضه ووطنه كون الفن مرآة المجتمع والسجل الحضاري، فدور المرأة الإبداعي بناء إنسان سوي يسهم في تقوية الروابط مع المحيط والخصوصية المنتمية لها في زرع تباشير الخير والثنايا والمنحنيات عبر نص التشكيلي، ورغبته في كسر العتمة لتُبعث المرأة من خلال الزوايا بمحبة وسلام وعدالة، فكانت ألوانها الحارة المشرقة تدلُّ على الأحاسيس المتدفقة تسحب المتلقي إلى أبعد من اللوحة.
إلى ذات الفنان والفنانة الأنثى وروحها المصلوبة لتدلك على الوجع وماعلقته عليها من آمال وأفراح.
تتأرجح بين الحرمان
بدورها الشاعرة والروائية فاطمة نور الدين جسَّدت من خلال أشعارها وروايتها الأولى «ران على قلوبهم» المرأة فكان لها دور بارز فيها، طارحة أسئلة عن كيف لا تكون. إنَّها المنبع لإبداعها ومحور العالم جلّه، وفيض الحُسن والجمال، وأوراق الخريف المتهالكة عن الأغصان. تتأرجح بين طيّات الحرمان، فمن حياتنا وأيامنا والمجتمع المتربِّعين على جنباته على أروقة العالم الريفي نجد أنَّ المرأة أخذت كفايتها من الذل والقهر والظلم حتى فاضت على العالمين.
مجتمع لايعترف سوى بحقوق الرجل مع تنزُّهه عن ارتكاب الكبائر كونه يفوق الأنثى في كلّ شيء، ويراها الضلع القاصر والمعوَّج، مَنْ لا يجوز إعادة تقويمه أو المحاولة في استقامته إنَّها لا تقوم لها قائمة، فعليها واجبات وليس لها حقوق، وينبغي أن تدفع ثمن عثرات الرجل، وإعوجاج العالم والكون كلّه.. تشارك العائلة منذ نعومة أظفارها في أعمالهم البيتية، وتلعب دور الأمّ وماتزال في براءة طفولتها، بجسدها الصّغير الغض فتُحرم حتى من أبسط حقوقها، ويترك للولد الذكر السّاحة برمتها. يلعب، يتعلم، يمارس طقوس حياته من دون رقيب أو عتيد.
وترى الكاتبة نور الدين أنَّ الأنثى ينبغي عليها العمل من فم ساكت، وأن تكون وليمة دسمة لمجتمع تجذرت فيه العادات والتقاليد، وكلمة «عيب» أكثر من عبارة «رفقاً بالقوارير»، فنرى المحيطين بالمرأة عندما تلد أنثى تصبح وجوههم مسودَّة مُكفهرَّة وكأنَّ على رؤوسهم الطّير، أمّا عندما تلد الذكر فترتسم ضحكاتهم المستبشرة خيراً، وعليها أن تراعي الكبير والصّغير.. أن تكون الضحية دائماً وعنقها مُسلَّطة عليها سيف المجتمع بجلاديه وذكوريته البحتة، وتعود لتساؤلاتها من جديد: كيف لها أن تكتب أو تبحر في عالم الكتابة دون أن يسترعي نظرها الجزء النابض والأهمّ في جسد المجتمع المتهالك، وباستقامته يستقيم المجتمع وباعوجاجه يتوه المجتمع بين طيَّات التخلف والحرمان، فالمرأة الوطن، الحضن الدافىء وملاذ الرجل في أوج انكساراته، وكيف لها أن ترسم لوحة أو تنثر قصيدة أو تعانق السطور وترتشف رشفة من فنجان القهوة بدونها؟ كونها أبجدية الحياة ورونقها وعبير وأنس الكلمات وشذاها.
جذر الوجود
الشاعرة رنا محمود رأت أنَّ الشعر برقَّته وعوالمه أشبه ما يكون بالمرأة، لذا منحت في أغلب قصائدها الأنثى جذر الوجود وأصل الحياة كون العالم كله خرج من رحمها الخلاق، فأنشدت:
أنا أنثى الألوهةِ
وفي حقولي
شقّتْ بذرةُ الحياة
دربَ خضرتها
الأزلي
بينما ترى أنَّ الكتابة أنثى متمرِّدة وقصيدة النثر تشبهها لأنها كسرت قيودها وانطلقت حرة محلّقة في فضاءات لا متناهية، متخلِّصةً من أسر الوزن والقافية كما تتحرر المرأة القوية الواثقة الثائرة من قيود القبيلة وسيوف الذكورة المُسلَّطة على رقاب النساء؛ لم تجد نفسها في القصيدة الكلاسيكية، ولا في النمط الكلاسيكي للمجتمع، فعاشت القصيدة كما أرادتها، ولطالما قالت: «الكتابة تشبهني، وعلى الكاتب أن يشبه ما يكتب، وعلى الفنان أن يبدع لوحته مرآة روحه، وفي الفنون كلها يجب أن تكون الولادات طبيعية لا قسر فيها، والتمرد المقصود: تمرد على الأخطاء والأعراف والتقاليد الفاسدة؛ وليس على الأخلاق ووجدان المجتمع السليم، فأنا أحترم بيئتي وأحبُّها، لكن أسعى لأن تكون جميلة نظيفة رائقة».
كما أضافت الشاعرة محمود بأنَّها لُقِّبت بشاعرة المرأة أو نصيرة المرأة، إذا كان المقصود المعنى الواسع للوصف، فحروفها مغموسة برائحة الأنثى، باعتبارها أمّ الكون، أمّا إذا كانت نظرة التوصيف لجهة قضية المرأة وما يدور في وجدان وإحساس الأنثى فتناولت الزاوية ذاتها بنشوة وإشباع وتفتخر بذلك، لكنَّها تناولت الزوايا الأخرى أيضاً، فكان البناء كاملاً مضاء من كل نواحيه، فحروفها نبذت الحرب وحفرت بعيداً في الأرض وجلست مع الناس وعانقت فلسطين والشام والبحر والشجر والإنسان، لأنَّها آمنت بأنَّ الشعر إن لم يحمل قضية فلا معنى له، وتظهر الأنا في قصائدها وتقصد أن تمثل فيها الذات الجمعيَّة العامة عند المرأة فجعلتها قوية واثقة كالملكات مثل: «أنا امرأة من زجاج أتشظى إن قذفت بحجر»، و»أنا المليكة الحرة التي شدت خيوط الأيام بأصابعها الباردة» فكان لعناوين دواوينها مدلولها (صرخة أنثى) ديوانها الأول، وتلا بعدها (الأرض بعض ظلي)، كيف لا تكون الأرض بعض ظل امرأة أنجبت الأنبياء والأبطال والشهداء والعلماء و(سر نبوءتي) لتكن المرأة نبية!! (حين ترسمني القصيدة) المرأة قصيدة. (الروناليزا) ديواني الخامس وتماهت فيه بين ابتسامة يختبئ خلفها ألم مدفون. هكذا كان حال المرأة الشرقية،
وكفنانة تشكيلية لوحاتي ومنحوتاتي تتغنج وتبكي وترقص وتعتز فكانت أسماء أعمالي: (الملكة، حوريتي، الأميرة النائمة، الراقصة، الأنثى المحلقة ونص مسرحي بعنوان هذيان) مونودراما أنثوية واقعية نابعة من آهات جرحتها أشواك الحياة ومازالت تكمل المسيرة بامرأة شجاعة واثقة قوية كالملكات.
العدد 1191 – 28 -5-2024