من سرق وعينا الثقافي والاجتماعي؟

الثورة- ديب علي حسن:
قد يكون العنوان تقريرياً جازماً أن وعينا الاجتماعي والمعرفي والثقافي قد سرق.. فهل الجزم هنا صحيح..؟
بالتأكيد: ليس صحيحاً مئة بالمئة، ولا هو خطأ تماماً.. بل بين بين.. نعم ثمة وعي اجتماعي تم العمل على تشويهه عبر عقود من الزمن وفي غفلة منا نحن من ندعي أننا صناع وعي وتنوير.
الوعي الذي أتحدث عنه، هو تلك الأصالة الحقيقية والقيم السورية الإنسانية النبيلة التي كنا ومازلنا نتمتع بها..
وعي الإنسان السوري البسيط الذي يتصرف وفق أنقى وأرقى القيم، وربما كان وعيه الاجتماعي وهو الذي لم يدعِ أنه يحمل أعلى الشهادات، كان أنقى وأصفى من وعي من ادعى أنه وصل المراتب العليا في التنظير وادعاء المعرفة.
من تجربتي الشخصية قبل ثلاثين عاماً يممت وجهي شطر الرقة لأعمل مدرساً هناك، في ضاحية قريبة من جانب الفرات الخالد كانت المدرسة، وكان لا بد من مكان إقامة.
أسرة ريفية طيبة قدمت المكان، وحين سألت عن بدل الإيجار كاد صاحب البيت يغضب.. هل نحن نؤجر، أنت واحد منا ومن أولادي، ألا يكفي أنك تعمل على التعليم هنا؟
أنت في غربة عن أهلك، ونحن أهلك، ولن تعامل إلا كما نعامل أبناءنا..
في الجعبة الكثير من الوقائع الشخصية وغير الشخصية والحكايا التي تروي عمق وأصالة الوعي الاجتماعي والقيمي في مجتمعنا..
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف استطاع البعض التسلل إلى استغلال وسلب هذا الوعي.. من المقصر.. أهي المؤسسات الرسمية أم النخب الثقافية التي يقع عليها عبء كبير.. أم أن المتغيرات العالمية عصفت بنا؟
نخب تائهة..
مما لا شكّ فيه أن النخب الثقافية والاجتماعية والمعرفية تتحمل مسؤولية كبيرة، ولاسيما مع فورة الانبهار بالمصطلحات الغربية التي كان البعض يعمل على تسويقها بمن فيهم من الوسط الثقافي الرسمي المدلل حينها من قبل من يملك إدارة هذه المؤسسات.
سادت موجة الفن للفن، والتغريب خارج سياق استنهاض الوعي الجمالي والتنويري.
تقرأ رواية تهويمية لا تعرف لا أين مكانها ولا زمانها ولا تعالج قضية أبداً.
هل تتصورون أن بعض مسؤولي الإعلام الثقافي كانوا يعملون، بل يقفون بقوة ضد استذكار أي شخصية إبداعية رحلت، وكان لها الدور المهم والفاعل.. وفي المراكز الثقافية نشاطات لا أحد يدري ما الغاية منها.
في مدارسنا وجامعاتنا التركيز على الوصول إلى أعلى معدل يتيح لك دخول فرع يدر المكاسب.. تجد من حقق الدرجات التامة وهو لا يعرف ألف باء القيم.. لم يقرأ صفحة خارج منهاجه، وكم يصح هنا ما قاله جبرا إبراهيم جبرا (لا أحب هؤلاء السُذّج الذين يتخرجون بمعدلات عالية، وتخصصات علمية مهمة، لكنهم لا يسمعون الموسيقا، ولا يعرفون شاعراً واحداً، ولم يحضروا فيلماً سينمائياً، أو يحاولوا كتابة قصيدة، أو أن يخلطوا علبة ألوان ليرسموا لوحة».
أنا لا أفهم هؤلاء الناس الذين بلا طقوس شخصية بلا عادات بلا تفاصيل، لا يهتمون بألوان الأزرار، ولا خشب المقاعد ويرضون بأي سائل ساخن أحمر فلا يتوقفون عند نوع الشاي.
الحياة في التفاصيل، في الأحاسيس، في الذائقة.. في معنى أن تهز رأسك حزناً أو فرحاً أو طرباً لمقطع من أغنية قديمة، أو أن تنفعل برائحة الياسمين تهب من شارع عتيق على الدوار الأول.).
نعم تغير كل شيء حتى مفهوم النخب، وكنا قد طرحنا السؤال منذ فترة هنا في هذا المكان؛ (السؤال الملح اليوم، وقياساً على نخب القرن الماضي بكامله، وربما حتى منتصف تسعينياته: لماذا نحن الآن أمام نخب كرتونية خلبية، ضجيجها أكبر من فعلها بمرات ومرات.
طبعاً التعميم غير صحيح لكن في الأعم الأغلب هي ظاهرة تدعونا لأن نطرح أسئلة من الضرورة أن تطرح وأن نعرف لماذا تحولت النخب إلى مجرد أبواق تبحث عن مشاريع خاصة وذاتية، وصارت أصواتاً تباع وتشرى، لماذا نذكر الفعل قبل القول عند نخب القرن الماضي، بدءاً من رواد اليقظة العربية إلى شهداء من النخب دفعت حياتها ثمناً لحراك فكري وتنويري ونضالي؟
لا ندعو لأن تضحي النخب الحالية بأرواحها، وهي لن تفعل ولو كان في ذلك خلاص الوطن، فمعظمها غارق في ملذاته، وأوهامه أنه محور الكون، ولولاه لكانت الطامة الكبرى، لا نريد ذلك منهم نخب المال والتجارة والاقتصاد والصناعة، إلا قلة قليلة، وهذه النخب مشغولة الآن بالمزيد من تكديس الأرباح والتغول، والقضاء على ما تبقى من قدرة لدى المواطن على المقاومة وفعل الحياة.
أما بعض نخب الفكر والسياسة والثقافة والإعلام، فهم في واد غير ذي زرع، لم ولن تنبت فيه أفكار معقمة وليست من الحياة، ولا هي للحياة أبداً، ربما سيقول أحد ما: أنت تبالغ فيما تقوله، ربما يكون ذلك ولكن هل لأحد ما أن يجيبني على بضع أسئلة موجهة لكل النخب ومن مختلف الألوان والطبقات التي تفرز نخبها. وأعني الآن بالنخب: من له قدرة على التأثير على المجتمع وتحولاته، له كلمته وفعله، وهؤلاء كثيرون، موجودون في كل القطاعات، ولكن كيف يتحركون، وبأي اتجاه، هل مارسوا دورهم الحقيقي؟
في النخب الفكرية العاقر: هل حقاً كان لها دورها، ولو كان لها هذا الدور، رأينا هذا العمه والردة الجاهلية في أنحاء الوطن العربي، والنكوص إلى العشيرة والقبيلة… بل أبعد من ذلك: كيف أصدق أن لفلان دوراً تنويراً وهو من كان يحرض طائفياً ومناطقياً، كيف سأقرأ له، وكيف أصدق أنه عندما يقف على منبر ما ويرغي ويزبد مديحاً بالعروبة والنصر، كيف أصدقه، والدم الذي سفك بسبب ما كان يفعله ما زال ندياً؟
كيف أصدق نخباً تعترف أنها الآن معنية بأمر طائفي، كيف أصدق نخباً تجارية لم تشبع من دم الناس، كان الوطن لها مغنماً، والآن هو منجم من استغلال، الغريب في الأمر أن الإحساس الحقيقي الذي كنت تسمع به، أو تقرؤه عن نخب المال والاقتصاد والتجارة، ليس منه ذرة على أرض الواقع.
نتحدث عن توحش العولمة، وعن قهرها للشعوب، وقد كان القهر والظلم والفحش عند البعض مما لا يمكن لأي أحد أن يصدق أنه يصدر عن سوري.
نخب اليوم غارقة في ملذات ما تحصده والمواقف للبيع، لاشيء يشدها إلى الحياة التي يجب أن تعمل على الارتقاء بها وتنويرها، الشهادات العلمية تشترى وتباع، والإطلالات الإعلامية لذوي المال في معظم القنوات الفضائية العربية، أما صناعة الكتب وإصدار الصحف والمجلات وغير ذلك فحدث ولا حرج.
أوطاننا مأزومة بالحروب العدوانية عليها، عدونا الخارجي نعرفه، ولكن عدو الفكر والهوية والانتماء هو الأكثر قدرة على التخريب، لأنه يغتال اليوم والغد.
نخبنا بكل شيء إلا قلة قليلة، ليست من النخب إلا بالاسم، وعلى مبدأ من ليس لديه كبير في بيته فليشتر (قرمة ويضعها).
نحتاج في كل الوطن العربي إلى السؤال المر: ماذا تفعلون ولماذا ضجيجكم أكبر من فعلكم، من المسؤول عن الإخفاقات الكبرى في الفكر والهوية والانتماء، باختصار: مطالبون بالفعل قبل القول، والمرحلة لا تحتمل التنظير، هل تقتدون ببعض ما قامت به نخب الماضي..؟) الآن وليس غداً نحتاج إلى استعادة وعينا الاجتماعي والثقافي والتنويري فهو ليس بخير.

آخر الأخبار
اشتباكات حدودية وتهديدات متبادلة بين الهند وباكستان الرئيس الشرع يلتقي وزير الزراعة الشيباني أمام مجلس الأمن: رفع العقوبات يسهم بتحويل سوريا إلى شريك قوي في السلام والازدهار والاقتصاد ... "الصحة العالمية" تدعم القطاع الصحي في طرطوس طرطوس.. نشاط فني توعوي لمركز الميناء الصحي  صناعتنا المهاجرة خسارة كبيرة.. هل تعود الأدمغة والخبرات؟ ترجيحات بزيادة الإمدادات.. وأسعار النفط العالمية تتجه لتسجيل خسارة تركيا: الاتفاق على إنشاء مركز عمليات مشترك مع سوريا "موزاييك الصحي المجتمعي" يقدم خدماته في جبلة تأهيل طريق جاسم - دير العدس "بسمة وطن" يدعم أطفال جلين المصابين بالسرطان اللاذقية: اجتماع لمواجهة قطع الأشجار الحراجية بجبل التركمان درعا.. ضبط 10 مخابز مخالفة تربية طرطوس تبحث التعليمات الخاصة بامتحانات دورة ٢٠٢٥ مُنتَج طبي اقتصادي يبحث عن اعتراف سوريا أمام استثمارات واعدة.. هل تتاح الفرص الحقيقية للمستثمرين؟ دعم أوروبي لخطة ترامب للسلام بين روسيا وأوكرانيا واشنطن: بإمكان إيران امتلاك برنامج نووي سلمي بحال تخليها عن التخصيب The New Arab: "نسور الحضارة 2025" توسع التعاون العسكري بين مصر والصين "لعنة الضرائب" تلاحق ترامب: ١٢ ولاية أمريكية تطعن قضائياً بالرسوم الجمركية