الملحق الثقافي- وفاء يونس:
يبدو أن الذكاء الاصطناعي سوف يحل مكان كل شيء، حتى في النقد والسرد وغيره، وقد بدا الكتاب والنقاد والدارسون يتابعون هذا الأمر ويبتكرون مصطلحات نقدية وثقافية جديدة تتفاعل مع الجديد، الناقدة العراقية نادية هناوي تكتب عن ذلك في القدس العربي :
الاستبدال مفهوم نقدي واشتغال سردي فيه الدليل على ما للمؤلف من فاعلية إنتاجية، بوصفه الكاتب الفعلي الذي يغيب تاركاً وراءه صورتين تدلان عليه؛ الأولى الحكاء والأخرى السارد.. وإذا ركز منظرو النص وما بعد النص والتناص على السارد، فإن منظري التعدد والتفاعلية اهتموا بالسارد أيضًا، ولم يهملوا الحكاء، غير أنهم افترضوه اشتغالاً جديدًا وليس تقليداً قديمًا، وقيدوا عمله بالخرق والتبديل من ناحية الفاعلية الداخلية وحسب.. وعدوه تجريبًا سردياً معاصرًا مع أن الرواية الكلاسيكية عرفته، واختلفوا في توصيفه، فتارة هو ما وراء السرد، وتارة ثانية هو المفارقة وتارة ثالثة هو التخييل الذاتي الانعكاسي.
وما دامت هيئة الحكاء غير واضحة، فسيظل الخلط بين مستويات السرد قائمًا.. يدل على ذلك اختلاف الرؤى وتباعدها؛ فالمنظرة الأميركية ماري لوري رايان تخصصت بدراسة الاستبدال في الذكاء الاصطناعي، واشتمل كتابها (العوالم المحتملة : الذكاء الاصطناعي ونظرية السرد )1991 على رؤية منهجية تطوع فيها نظرية العوالم الممكنة في اتجاه جديد، فيه الاستبدال تقانة لوصف المجال الدلالي، الذي يبرزه النص، أو هو طريقة لوصف وتصنيف الموجودات التي منها يتشكل المجال الدلالي. وهو ما يمكن للذكاء الاصطناعي استثماره في محاكاة العمليات العقلية فيكون استعارة للعالم ومصدرًا مهمًا للنظرية الأدبية وتحليل الخطاب والفعل الكلامي وعلم النفس المعرفي ونظرية الرسوم البيانية.. وبينت أن أهم المساهمات لا يقدمها المتخصصون في برامج الحاسب الآلي وحسب، بل أيضًا المتخصصون في العلوم الإنسانية الأخرى.. ثم استكملت رايان دراسة الاستبدال في كتابها (الصورة الرمزية للقصة) 2006، وتحديدًًا الفصل التاسع منه والمعنون (كائنات استبدالية) وعدت الاستبدال اشتغالاً «بلاغيًا» عُرف في وقت مبكر من القرن السابع عشر، وتطور بشكل كبير مع ثقافة ما بعد الحداثة والثقافة الرقمية، فدخل إلى الخطاب النقدي من باب ما لأجهزة الكومبيوتر، من دور في التأليف ما بين استعارات تراكمت جراء مستويات سردية متعددة.
ووجهت جهودها نحو النص التفاعلي ودور الاستبدال في صنع أوضاع تشعبية هي عبارة عن بيانات متعددة المستويات تتم معالجة مكوناتها بترتيب يعرف بـ( LIFO) وهو طريقة حوسبية في تتبع حركة المخزونات، حيث الذي يرد أخيرًا يصدر أولاً. ووجدت في فكرة المستويات التي قدمها جيرار جينيت لوصف ظاهرة انتشار القصص داخل القصص، ما يقدم معادلاً سردياً للوضع التشعبي للبرمجة.. وإذا كان في السرد الخيالي مستويان مؤطر وتأطيري، فكذلك في النص التفاعلي مستوى لفظي يمثله السارد داخل النص، ومستوى وجودي يحدث حين تُروى القصة.. وفي هذه الحالة، يكون واجباً على القارئ أن يركز نفسه في عالم خيالي جديد ويبدأ في بناء صورته الذهنية من الصفر، بدلاً من النظر إلى هذا العالم كامتداد لعالم المستوى السابق.. ومثال رايان هو حكايات ألف ليلة وليلة، فالمستوى اللفظي يحكي قصة شهرزاد والسلطان، والمستوى الوجودي خيالي تصنعه الساردة شهرزاد، وفيه يقفز المتلقي من القصة الضمنية إلى القصة الإطارية شهرزاد، ويترك القصص الأخرى معلقة، وهذا من شأنه أن يشكل انتهاكًا للسرد، وخيانة لتوقعات القارئ.
ومن الباحثين المهتمين بدراسة الاستبدال إروين فايرسينغر، وطبّقه على أفلام «الانيمشين» أو الرسوم المتحركة في دراسته ( دوائر ديجيتيك القصيرة: الاستبدال في الرسوم المتحركة) 2010، وحدّد الاستبدال بأنه تجاوز خيالي ومتناقض لحدود العوالم غير الواقعية، التي هي عبارة عن أشكال مختلفة من الرسوم المتحركة.. وبين أنه على الرغم من أن ظاهرة الاستبدال معروفة على نطاق واسع في تاريخ الرسوم المتحركة، فإن تنظيرًا سردياً خاصًا بدراسة الرسوم المتحركة لم يُنجز بعد.. وعد الاستبدال مناسبًا للسردية العابرة للوسائط الافتراضية، كألعاب الكمبيوتر ولوحات الرسم ومقاطع الفيديو والقصص المصورة، فضلاً عن العروض الموسيقية والمسرحية.
وبين أنه على الرغم من أن ظاهرة الاستبدال معروفة على نطاق واسع في تاريخ الرسوم المتحركة، فإن تنظيرًا سرديًا خاصًا بدراسة الرسوم المتحركة لم يُنجز بعد.. وعد الاستبدال مناسبًا للسردية العابرة للوسائط الافتراضية، كألعاب الكمبيوتر ولوحات الرسم ومقاطع الفيديو والقصص المصورة، فضلاً عن العروض الموسيقية والمسرحية.
ولمنظري السرد غير الطبيعي دورهم أيضًا في دراسة الاستبدال، فجان ألبير مثلا، اشترك مع أليس بيل في تأليف كتاب (الميتالبسيس الأنطولوجي والسرد غير الطبيعي) 2012، وله كتاب (السرد غير الطبيعي في خيال النص التشعبي) ،2013 وتخصص جيف ثوس بما سماه (الاستبدال التفاعلي) في كتابه (عندما تتصادم عوالم القصص: الاستبدال في الخيال الشعبي والأفلام والقصص المصورة) وفيه أكد أن روائيي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عرفوا الاستبدال.. وأنه صار في القرن الحالي ظاهرة روائية بسبب التأثر واسع النطاق بوسائل الإعلام والثقافة الشعبية والنخبوية.
ووجه اهتمامه نحو ما يملكه الاستبدال من دينامية فريدة تجعله ذا إمكانيات هائلة في إنشاء سرديات أكثر إثارة ومتعة، فالتأمل الذاتي في القصص الشعبية مثلا أداة فاعلة في كتابة أعمال أدبية وسينمائية.. وقدّم ثوس مراجعة موجزة للتنظيرات التي طرحها كل من ماري لوري ريان ولوبومير دوليزيل حول الاستبدال، وأفاد أيضًا من مفاهيم منظري السرد غير الطبيعي، وأخذ بما أسسه جينيت للاستبدال من مستويات تتعلق بداخل القصة وخارجها، لكنه أضاف إليها جديدا يتمثل في النظر إلى الاستبدال اشتغالا ثلاثي الأبعاد، يجمع بين الانتهاكات والتجاوزات والنمطية.. وأن وظيفة هذا الاشتغال تتحدد في ما سماه ثوس بـ(صدمة عوالم القصSالناتجة عن تعدي مستويات السرد لحدودها المعهودة والطبيعية، وهو ما (يمكن للمرء أن يجده في كلاسيكيات الأدب التجريبي مثل رواية تريسترام شاندي للورانس ستيرن، أو القصص القصيرة لخورخي لويس بورخس، وأيضًا في أفلام الرعب لستيفن كينج، وفي أفلام ميل بروكس الساخرة والقصص المصورة للأبطال الخارقين لغرانت موريسون).
واهتمت الباحثة أليس بيل بالاستبدال التفاعلي ووصفت ما في طبيعته المرنة من إمكانيات في دراستها (الاستبدال التفاعلي والسرد غير الطبيعي) 2016 وعدته (أداة مدمجة بطبيعتها في الخيال الرقمي العملي وهو بالضرورة غير طبيعي ويتعلق بالطرق التي تظهر بها أشكال خاصة بالوسائط.. فالاستبدال التفاعلي شكل من أشكال الاستبدال، وهو يتعدى حدود القصة إلى التكنولوجيا الرقمية.. ومن خلال أجهزتها مثل الفأرة ولوحة المفاتيح يتمكن القارئ من الوصول إلى النص وبأوضاع تفاعلية خاصة، مثل الارتباطات التشعبية والصور الرمزية).. ومن الوسائط التي تساعد في توظيف الاستبدال كاميرات الويب وأجهزة البرمجة الحاسوبية، وما فيها من ارتباطات تشعبية.. ومثلما أفاد ثوس من نظريات السرد غير الطبيعي، كذلك أفادت بيل منها، بيد أنها وجدت أن بعض أسس هذا السرد النظرية تحتاج إلى إعادة نظر في ضوء تجليات الخيال الرقمي غير الطبيعي.
ومن الباحثين الذين اهتموا بالاستبدال السردي، الفرنسية كلوتيلد لانديس في دراستها (الاستبدال السردي بوصفه أداة للغرابة في السرد الفنتازي المعاصر) وطبقت المفهوم على رواية (أليس في أرض العجائب) ووجدت أن فيها نصين سرديين أحدهما، يُبنى على الآخر، الأول هو الرواية يقدمها شخص له معرفة مطلقة بالقصة، ويمكن فهم هذا الشخص على أنه هو المؤلف نفسه، لويس كاروك، والآخر هو القصة ويقدمها سارد متكلم متمركز داخل القصة، يتم تمييزه عن المؤلف الذي هو من لحم ودم.
وعلى الرغم من أن هذا السارد خارجي عن القصة لأنه لا ينتمي إلى مغامرات أليس، فإنه داخلي على مستوى السرد، وهو أكثر ملاءمة لتوليد الغرابة الضرورية في الرواية.. وأطلقت على هذا النوع من الاستبدال اسم ( الاستبدال التأليفي) وتفرض الوظيفة التواصلية على السارد أن يوظفه فيحدث الارتباك في مستويات السرد.. وهذا ما يعزز التأثير الخيالي من خلال خرق الحدود المعتادة ما بين المؤلف والسارد أو بين ما سماه جان ريكاردو قصة المغامرة ومغامرة القصة.. وأكدت أنه مثلما ينبغي عدم الخلط بين السارد داخل القصة والمؤلف خارجها، كذلك ينبغي عدم الخلط بين القارئ الذي يتخيله المؤلف، وليست له أية علاقة بالسرد وبين المسرود له الذي يُخاطِبه السارد بشكل متكرر بـ«عزيزي القارئ».
العدد 1193 – 11 -6-2024