على “بروفايلي” الأزرق، ثمة بضعة حسابات لأصدقاء خبّأهم الموت في جعبته الواسعة.
يعجبني كيف يطلّ وجه الموت مستصغراً كل الغيابات..
-منذ أيام قليلة ظهرت صورة الشاعر عادل محمود في “ستوري” للتذكير بعيد ميلاده.
-أحياناً، يفاجئني تعليق لأحد الغائبين على منشورٍ يظهر في خانة الذكريات.. فتختلط مشاعري بين حزنٍ وفرح بالآن عينه.
-لايزال اسم خالي “سمعان” ضمن أقرب الأسماء في سجل الاتصالات على الموبايل، فقبل يوم واحد من غيابه هاتفته.
بالرغم من كل الوجع.. يعجبني كيف يطلّ وجه الموت مستصغراً كل الغيابات..
هكذا يُختزل وجودنا، نهايةً، إلى مجرد اسم.. أو صورة..
ومع ذلك يمتلك هذا الاختزال القدرة على قهر (اللحظة/لحظتنا) الحالية واقتحامها.
يعجبني كيف يمكن للموت صفع هدوئنا.. وزلزلة زيف استقرارنا..
وكيف يعيد إلى ذاكرتنا أسماء.. مواقف.. وذكريات مخبّأة في غيابات زمن عشناه أو نخال أننا عشناه.. وامتلأنا به حتى اعتقدنا أننا نسيناه وطوينا صفحته لاستقبال القادم.
يبدو لي أن عنوان نص الكبير سعد الله ونوس (رحلة في مجاهل موت عابر)، يمكن أن يتحوّل في هذه البقعة الجغرافية إلى (رحلة في مجاهل عيش عابر).. فلحظات اختراق الموت هي (عيش) عابر.. أو لربما حدث العكس.. فتخترق لحظات العيش موتاً عابراً.
كلّما أطلّ وجه أحد الغائبين بواحدة من طرق التطبيقات الذكية، كان عيشاً.. وكلما لمحتُ اسم أحدهم على موبايلي كان عيشاً بذاكرتي وتجديداً للحظات مشتركة لا تنسى.
يغيب خالي “سمعان”، فيزداد عمل الذاكرة..
كأنها قرصٌ مغناطيسي لاقط لكل ما عشناه سوياً.
الآن.. تمتلئ ذاكرتي بطريق يكسوه بياض الثلج.
كان الوقت شتاءً.. تقِلُنا سيارة خالي سمعان أنا ووالدتي ومعنا خالي عز الدين، من حمص إلى أطراف حماة، لزيارة بيت أحد أصدقائه للتعرّف على سيدة قيل إنها تتبع طرق علاج طبيعية وسبل المداواة بالطاقة.
كلّ ما أذكره من ذلك البيت رائحة الدفء النفّاذة.
كنت طفلة لم أتجاوز التسع سنوات، ومع ذلك كنت قادرة على منع تلك السيدة من ممارسة طرق علاجها التي لم تعجبني.
لقطاتٌ.. وصورٌ تجتاح ذاكرتي عن تلك الرحلة/المغامرة.. وكيف حاول خالي سمعان مسايرتي وإقناعي، لرغبته برؤيتي متحررةً من إحدى أصعب المحن في حياتي.. والتي تحوّلت، لاحقاً، إلى أعز الأصدقاء..
نعم.. يحدث أن تتحوّل معظم محننا وصعوبات حياتنا، مع الوقت، إلى أعز أصدقائنا.
خلال أحد أصعب الأوقات، همس لي الخال (دعي القلق.. وابدئي الحياة).. وأهداني كتاب (ديل كارنيجي)..
حينها.. ودّعت الكثير من الأوجاع والقلق.. وختمتُ عليها بشمع النسيان الأحمر.
أما اليوم.. أُغلق على محنة غيابه بالإبقاء على صورته التي أحبّ حيةً في ذاكرتي.. صاحب روح عالية وخفّة ظل محبّبة وقدرة على صنع الابتسامة والضحكة نكايةً بكل الأوجاع.