د. محمد الحوراني:
في مقال له نشرتْهُ صحيفةُ “جيروزاليم بوست الصهيونية” بعدَ نحوِ تسعة أشهر من حرب الإبادة الصهيونيّة على غزّة، طالبَ “مارتين أولينز” رئيسُ مُنظّمة الصهاينة المُتديّنين في الولايات المُتّحدة الأميركيّة “بانتهاك القواعد، حينما يتعلّقُ الأمرُ بتقليل الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيليّ؛ وإنقاذ حياة أولادنا وبناتنا في الحرب ضدَّ الشّرّ. وعلى إسرائيل أن تتخلّصَ من فكرةِ أنَّ على جيشها أن يُديرَ حرباً نظيفة”؛ كأنّ الهمجيّةَ والإجرامَ الصّهيونِيّين لم يَرْوِيا نَـهَـمَ المُجرمينَ والدّمويّينَ الصهاينة، من أمثال “أولينز” هذا، الذي أتى مقالُـهُ مُتزامناً مع تصريحات المُتحدّث باسم وكالة الأمم المُتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئينَ الفلسطينيّين (الأونروا)، التي أعلنَ فيها “أنّ المجاعةَ انتشرَتْ في مناطق شمال غزّة إلى المناطق الوُسطى والجنوبيّة، حيثُ يقطن أكثرُ من 1.8 مليون شخص، مُقدِّراً أنّ 90 % من الأطفال يُعانونَ من درجةٍ ما من فقرِ الدَّمِ وسُوءِ التغذية”؛ هذا إضافةً إلى عشرات الأطفال من الشُّهداء والمُصابِينَ من الأطفال والنساء، ومئات المدارس والمساجد والكنائس المُدمَّرة.
وكانتْ مُنظّمةُ إنقاذ الطفولة الدوليّة أعلنتْ بعدَ تسعة أشهر من حرب الإبادة الصهيونيّة على قطاع غزّة أنّ نحو واحد وعشرين ألف طفل في القطاع ظلُّوا تحتَ الأنقاض، أو اعتُقِلُوا، أو دُفِنُوا في مقابرَ مجهولةٍ أو جماعيّة.
وجاءَ في بيان المُنظَّمة، ومقرُّها بريطانيا، الاثنين ٢٤-٦-٢٠٢٤، أنّ عددَ الأطفال المُنْفَصِلينَ عن أهاليهم ارتفعَ بسبب الهجمات “الإسرائيلية” المُتَصاعِدَةِ على مدينةِ رفح جنوب القطاع.
وإذا كانَ الكيانُ الصهيونيُّ قد استخدمَ أقذرَ الأسلحة والأساليب في عُدوانِه على أبناء غزّة، رغبةً منهُ في إفنائهم والتَّخلُّصِ منهم، تحقيقاً لرغبةِ بعضِ قادتِهِ في أنْيبتلعَهُم البحرُ، أو تُفْنِيهمُ الحربُ، فإنّ إرادةَ الشعب الفلسطينيّ أثبتتْ أنّها أقوى من أسلحة المُحتلّ الصهيونيّ وإجرامِه؛ بعدَ نحوِ ثمانية عقود من الاحتلال وحروب الإبادة وأنّ الحربَ النظيفةَ التي يدعو هذا الصهيونيُّ إلى تَجاوُزِها ليستْ إلّا واحدةً من أقذر الحروب التي عَرَفَتْها المنطقةُ والعالم، فـ”الحربُ النظيفةُ” وَفْقَ بعضِ تعريفاتها: هي التي تُصيبُ الأهدافَ المُحدَّدةَ بدِقّة، وتُـتَفادَى خلالَها إصابةُ المَدَنيّين والمُنشآتِ غيرِ المُسْتَهْدِفَة، كما أنَّ استراتيجيّةَ التصويب العسكريِّ الدقيقِ فيها هي الأساسُ، بالاستفادة من الأسلحةِ الذكيّة معَ تجنُّبِ الاحتكاك العسكريِّ المُباشر على الطريقة التقليديّةِ المعروفة، والقيام بعمليات سريعةٍ وناجعة بضربِ عُمقِ الطَّرَفِ المُسْتَهْدَف معَ تجنُّب أكثر ما يمكنُ من الخسائر البشرية في صفوف القُوّةِ المُهاجِمَة.
وهو عكسُ ما يحدثُ تماماً في الحرب الصهيونيّة على الشعب الفلسطينيِّ وغيره من الشُّعوبِ الرافضةِ للمُمارساتِ الصهيونيّة والداعمة للمُقاوَمة، بلْ إنّ هذه الحربَ واحدةٌ من أكثر الحروب إجراماً واستهدافاً لأبناء الشعب الفلسطينيِّ جميعاً، ولا سيّما الأطفال والنساء، وهو الفعلُ الذي اسْتنكَرَهُ ونَدَّدَ به أصحابُ الضمائر الحيّةِ في الغرب، وبعضُ الفاعلينَ في المُنظَّماتِ والمُؤسَّساتِ الحقوقية والإنسانيّة الدوليّة، فبعدَ زيارتِها قطاعَ غزّة، في مُنتصَفِ حزيران 2024، ندّدتْ “مارسي غيموند” المُمثِّلةُ الخاصّةُ لمكتبِ هيئةِ الأُمَمِ المُتّحدةِ للمرأة في فلسطينَ بما يقومُ به الاحتلالُ الصهيونيُّ؛ بحقِّ الأطفال والنساء في غزّة، مُؤكِّدةً أنّهُ “تـمّ محوُ عائلاتٍ بكاملها في بعض الغارات الجوّيّة، ولدى كلِّ شخص تُقابِلُهُ قصصٌ رهيبةٌ جدّاً. كما أنّ العددَ الكبيرَ من الضحايا، ولا سيّما بينَ النساء، يجعلُ هذه الحربَ غيرُ مسبوقة”، ومعَ أنّ الهمجيّةَ الصهيونيّةَ في حروبها على الشعب الفلسطينيِّ وغيره من شعوب المنطقة، ليست جديدةً، لكنّها شكّلتْ مُنْعَطَفاً خَطِراً في عقيدة الإجرام الصهيونيّةِ المُتَّبَعةِ منذُ عشرينيّاتِ القرنِ المُنْصَرِم، وما تلاها، ولا سيّما الأربعينيات منه. في حينِيُحاوِلُ بعضُ الكُتّابِ والمُنظِّرينَ والقادَةِ الصهاينة تبريرَ الفظائعِ والجرائم المُرتَكَبَةِ بحقِّ الفلسطينيّينَ بأنّها لحمايةِ الوجودِ اليهوديِّ، لكنَّ السُّلوكَ الإجراميَّ الصهيونيَّ يُؤكِّدُ، بما لا يدعُ مجالاً للشّكِّ، أنّ المُحتلَّ الصهيونيَّ يشتغلُ يوماً بعدَ يوم على تطوير ما يُسمّى عقيدةَ “ادّعاء الجنون” بحجّةِ الحربِ النظيفة؛ وهي العقيدةُ التي كرَّسَها، وتحدّثَ عنها بصَلافةٍ ووقاحةٍ وزيرُ الأمْنِ الصّهيونيّ الأسبق، ذاتَ يوم.عندمّـا قال: “يجبُ أن ننظرَ إلى إسرائيلَ على أنّها كلبٌ مسعورٌ، وأنّها خَطِرةٌ جدّاً، بحيث لا يتجرّأُ أحدٌ على إزعاجها”.
لقد كانَهذا الجنونُ والدَّمارُ، الذي يقومُ به الكلبُ المسعورُ، الدافعَ إلى تجويعِ المَدَنيّينَ الفلسطينيّينَ بوَصْفِهِأسلوباً من أساليب الحرب القذرة، وكذلك الحال فيما يتعلّقُ بتدمير الكيانِ الصهيوني أكثرَ من 69% من المباني المدرسيّةِ التي تُؤوي النازحِينَ من قطاع غزّة، وَفْقَ تقريرِ وكالة (الأونروا)؛ بحيثُ لم يَعُدْ في القطاعِ مكانٌ آمنٌ لاستقبالِ النّاسِ وإيوائهم، ولم يَعُدْ هُناكَ أملٌ في الحياة على غالبيّةِ أراضي غزّة المُدمَّرة والمنكوبة.
ولـمّـا كانَ بقاءُ الكيانِ الصهيونيِّ محكوماً بمزيدٍ من القتل والتدميرِ والكَذِب، فقد سُرِّبَتْ معلوماتٌ مُزيَّفةٌ حولَ تهريبِ حزبِ الله اللبنانيّ السِّلاحَ عبرَ مطارِ بيروت، وهو ما نَقَلَتْهُ صحيفةُ التلغراف البريطانيّة، وهذا من شأنِه أنْ يُسِيْءَ إلى المقاومةِ عُموماً، وحزبِ الله خصوصاً، في مُحاولةٍ للضَّغْطِ على الحزبِ للتخفيفِ من حِدّةِ استهدافِهِ الكيانَ الصهيونيّ، وهو الاستهدافُ الذي أصابَ الكيانَ بخطرٍ بنيويٍّ ووجوديٍّ، وكانَ ردّاً على العُدوانِ الصهيونيِّ على أهلِنا في فلسطين، بعدَ الصُّمود والثبات والمقاومة التي أبداها الشعبُ الفلسطينيُّ في قطاع غزّة. والحقيقةُ أنّ الاتهاماتِ الصهيونيّةَ هذه لحزبِ الله أتَتْ بعدَ الضَّرَباتِ المُوجِعَةِ التي أصابت الكيانَ الصهيونيَّ والولاياتِ المُتّحدةَ الأميركيّةَ وحُلَفاءَهُما، وأدّتْ إلى خسائرَ كبيرةٍ للكيان داخلَ الأراضي الفلسطينيّة المُحتلّة وخارجَها؛ وقد أجْبَرَتْ ضرباتُ قُوى المقاومة هذه حاملةَ الطائرات الأميركيّة “يو إس إس دوايت دي آيزنهاور” على مُغادرةِ البحر الأحمر بعدَ تضرُّرها كثيراً نتيجةَ ضرباتِ قُوى المُقاومة في اليمن والعراق، إضافةً إلى الخسارة المعنويّة الكبيرة التي أصابت الكيانَ بعدَ نجاحِ “هُدْهُدِ” حزبِ الله في اختراقِ العُمقِ الفلسطينيِّ المُحتلّ، وإتيانِهِ بكَـمٍّ كبيرٍ جدّاً من المعلوماتِ التي نُشِرَ بعضُها، وتُـكُـتِّـمَ على غالبيّتها.
كانَ هذا الاختراقُ وغيرُهُ السَّببَ الرئيسَ في تراجُعِ ثقةِ الجمهور الصهيونيِّ بقُدرةِ جيشِ الاحتلال على تحقيق النَّصْر في الحرب على الجبهةِ الشماليّة، وهو ما أكّدَتْهُ صحيفةُ (هاآرتس) الصهيونيّة، نقلاً عن مصدرٍ رسميٍّ صهيونيّ مِنْ أنّ حزبَ الله يستخدمُ الصواريخَ الدقيقةَوالمقذوفاتِ الأُخرى ضدَّ الدبابات، التي تنجحُ جميعُها في اجتيازِ منظومةِ الدِّفاعِ الصهيونيّةِ وإصابةِ الأهداف بدقّة، ومنها على سبيل المثال منطادُ (تلّ شميم)؛ الذي يُعَدُّ في منزلةِ مُنْشَأةٍ من أهمِّ المُنْشآتِ الاستراتيجيّة الصهيونيّة، وهو ما دفعَ القائدُالسابقُلنظام الدِّفاعِ الجوّيّ في جيش الاحتلال الصهيونيِّ “زفيكاهايموفيتش” إلى التعبير عن قلقِهِ الكبير ومَخاوفِهِ المُتزايدةِ من قُدُرات حزبِ الله في عالم الصواريخ والقذائف والطائرات من دون طيّار، قائلاً: “أعرفُ جيوشاً كثيرةً في العالم لا تمتلكُ قُدراتٍ مثل قُدراتِ حزبِ الله في هذه المجالات”، وهو مادفعَ وزيرَ الخارجيّة الأميركيّ “أنتوني بلينكن” إلى التعبير عن خشيتِهِ من الحربِالشاملةِ معَ حزب الله التي قد تفوقُقُدرةَ القُبّةِ الحديديّةِ، حسبَ رُؤيةِ “جايكوب ماجد” في صحيفةِ “تايمز أوف إسرائيل”.
إنّ قذارةَ الحرب التي يَشُنُّها الكيانُ الصهيونيُّ على النساء والأطفال في غزّة تُواجَهُ برَدٍّ ناصعِ الطُّهْرِ والنَّقاءِ من الشعبِ الفلسطينيِّ وقُواهُ المُقاوِمَة، وتُقابَلُ برَدٍّ مسؤولٍ من قُوى المُقاوَمة في المحورِ، وهُوَ الرّدُّ الذي يُمكِنُنا توصيفُهُ بالرّدِّ النظيفِ الذي يستهدفُ قُوّاتِ الاحتلالِ وداعميهِ مُقابِلَ حربٍ صهيونيّةٍ قذرةٍ تستهدفُ البشرَ والحجرَ ومُقوِّمات الحياةِ كُلّها، في أيِّ بقعةٍ يَطُولُها الغَدْرُ والعُدْوانُ الصّهيونيّ.