عمار النعمة
لاشك أن فعل المقاومة لم يتوقف يوماً وحتى اللحظة، وملامح الأدب المقاوم حاضرة بيننا وفي وجداننا تعبّر عن كل ماهو نبيل وسام لتحقيق كرامة الإنسان وحريته.
اليوم ونحن نحيي الذكرى الثانية والخمسين لرحيل غسان كنفاني نستذكر أن كنفاني والكثير من زملائه قدموا الكثير في حياتهم فكانت القضية الفلسطينية الشغل الشاغل لهم عبر جميع العصور، وكانت فلسطين تضج برائحة الأنبياء والقديسين التي مازالت أرواحهم تستصرخ الانتصار لها من أولئك المفسدين في الأرض، أولئك الذين يقتلون الأطفال والرجال والنساء على حد سواء.
لم يكن غسان كنفاني رجلاً عادياً بل هو ظاهرة أدبية متميزة وواحد من أهم الأدباء الفلسطينيين الذين أسسوا للأدب الفلسطيني فيما بعد النكبة، وقد عرف كصحفي ومناضل حمل القضية الفلسطينية وهمومها في كل ما كتب، مستلهماً كتاباته من نبض الشارع الفلسطيني وواقعه.
يقول غسان كنفاني معرفاً بنفسه: ولدت في عكا عام 1936، وانتقلت بعدها للعيش في يافا مع عائلتي. في طفولتي كنت أدرس في مدرسة فرنسية، وذلك ساعدني في الانفتاح على الآداب الأخرى، كنت أنتمي لعائلة من الطبقة الوسطى، وكان والدي محامياً، وفجأة انهارت هذه العائلة وأصبحنا لاجئين.. غادرنا فلسطين إلى لبنان، ولاحقاً ذهبنا إلى دمشق، وهناك درست الأدب العربي، لكن وقع استبعادي لأسباب سياسية، وعندها سافرت إلى الكويت وباشرت في القراءة والتأليف.
شكلت النكبة الفلسطينة عام 1948 نقطة سوداء في التاريخ الفلسطيني، وتأثر كنفاني بالواقع الذي آل إليه الفلسطينيون، فاستلهم من قصص الناس وتجاربهم البائسة في مخيمات اللجوء أعماله الأدبية ورواياته.
يقول كنفاني: تطور أسلوبي الكتابي في الفترة ما بين عامي 1956 و1962، حيث كنت أكتب عن فلسطين كقضية قائمة بحد ذاتها، ثم تبين لي أني أصبحت أرى في فلسطين رمزاً إنسانياً متكاملاً.
قدم كنفاني أكثر من عشرين عملاً في الأدب العربي، ما بين القصة القصيرة والرواية والأدب المسرحي، والدراسات الأدبية، وكتب مئات المقالات السياسية والثقافية، وكانت رواياته قصيرة بعض الشيء، إلا أنه اختزل فيها كل ما أراد قوله، فجاءت مكثفة وعميقة وناطقة.
لاقت رواية كنفاني «رجال في الشمس» التي صدرت عام 1963 انقساماً بين القراء والمهتمين، وقد رأى الروائي إلياس خوري أن كنفاني أعطى في هذه الرواية إشارات عن كيفية تشكل الهوية الفلسطينية، وكيف يعود الفلسطيني لامتلاك لغته ووضع اللبنة الأساسية في الأدب الفلسطيني المعاصر.
أما رواية غسان كنفاني «ما تبقى لكم» فشكلت نمطاً جديداً في الأدب العربي، من خلال التداخلات الزمانية والمكانية التي أوجدها، فقد أضفت على رموز الرواية الجامدة -وهي الساعة والصحراء- شيئاً من الإنسانية، لتشكلا شخصيتين جوهريتين في العرض الروائي.
وكتب كنفاني في سطور روايته «ليس ثمة من تبقى لي غيرك.. وأنت تبدو بعيداً، رغم أنك في فراشي.. تتركني وحدي أحصي تلك الخطوات المعدنية الباردة تدق في الجدار.. تدق، تدق، تدق داخل النعش الخشبي المغلق أمام السرير».
كان الإعلان عن منظمة التحرير وانطلاق الثورة الفلسطينية عام 1965 بمثابة بارقة أمل للشعب الفلسطيني، وتجاوز للواقع المرير، لكن سرعان ما جاءت هزيمة حزيران 1967 لتصبح فلسطين محتلة بالكامل.
في تلك الفترة قدم غسان كنفاني روايته «بعد هزيمة حزيران»، وشكل أسلوبه الفني بناء منسجماً مع فكرة انحسار المقاومة العربية، وغدا التحرير مهمة الشعب الفلسطيني وحده.
كانت حياة غسان كنفاني زاخرة بالأعمال الأدبية رغم قصرها، ورواياته سطرت ملحمة نضال لروائي فلسطيني أبى أن تكون نهايته عادية، فبقي صامداً ومقاوماً حتى النهاية.
لانبالغ إذا قلت إنه لا تخلو أية دراسة من دراسات أدب المقاومة عن ذكر غسان، فهو يمثل اللبنة الأولى لهذا الأدب.
وكما كانت كتابته رمزية كان موته كذلك برمزية، فقد اغتالته أيدي الموساد في يوليو/تموز 1972 في بيروت عن طريق سيارة مفخخة.
