أحسّتْ بفرحٍ قريب..
بنوع من سعادة تتكئ على شيء من طمأنينة.
سريعاً ميّزتْ أن ما تشعر به يختلف عن إحساس القوة، مع أنه كان أول ما خطر ببالها.
لأجزاءٍ من الثانية، فقط، شعرتْ بالقوة، لتستدرك أنها موجاتٌ من الغبطة وظلال من سعادة تلوح لها..
لتلي كل ذلك تشويشات شعور خفي من تعب يخالطه انهزام من خمول مخبّأ خلف وهن أو مشاغبة مرض.
مشاعر مختلطة.. متناقضة.. اجتاحتها لدقائق قليلة وهي تتأمّل نفسها في المرآة وتتجهز لموعد الطبيب الذي بقيت ما يقارب الشهر محاولةً تحصيله.
كلّ لحظاتها وتجارب عمرها تضعها في كفّة.. وفي الكفّة المقابلة تتجمّع تلك اللحظات التي تسبق خروجها من المنزل.. حين يسري في جسدها شعورٌ غريب لذيذ مخاتل.. يوهمها بشيء من الانتصار.. نعم الانتصار..
فمنذ سنوات الطفولة كانت كل معاركها مع نفسها.
تصنع تحدّيات.. صعوبات.. ووقائع.
في أعماقها، تدرك أنها رسمت واختبرت حياة طفّت عن مستوى أحلامها.. مع أن لديها (بنك) أحلام لا ينفد.
وتعلم يقيناً أنها، في ظرفها الراهن، في سباق مع نفسها.. مع آخر نسخة من (أناها)..
وكأنها تستمتع باكتشاف نسخ عديدة.. وسباقها هو تحصيل تلك النسخة الأكثر جودة.
تنظر إلى نفسها في المرآة.. تتأهب وتخرج من المنزل.. تتجاوز تحدّياتها الصغيرة التي خبرتْ ملاعبتها بخفّةٍ وروح رياضية تحاول الحفاظ عليها مهما عظمت خسائرها..
لأنها، أي خسائر، الوسيلة التي تدفعنا لاكتشاف عمق كنوزنا المخبوءة وغير الظاهرة، ولأنها تجعلنا نثمّن ما لدينا من “أرباح” مهما تناهت في الصغر.
في العيادة ومن خلال حديث الطبيب تكتشف أن لديه منطق حياة وربما كان منطق ومنهج علاج يختلف عن منطق أحد أطبائها الذي أثّر بحياتها.. ولا تعلم، إلى الآن، إن كان سلباً أم إيجاباً..
هي تختبر..
فليس أمامنا سوى التجريب والاختبار.. واعتماد منطق (اللعب) حتى في أصعب تجاربنا.
امتلأ يومها بمشاعر عديدة.. متنوعة.. إيجابية حيناً.. وسلبية حيناً آخر.
مزيج متضارب من كل الأحاسيس والأفكار.. خليط من تركيبة آدمية.. تعلم أنها تمتلك نسيجها الأكثر إدراكاً لتناقضاتها.
مع الوقت امتلكتْ خبرة أن تتجاور كل تناقضات حالاتها جميعها إلى جانب بعضها، وتعلّمت كيف تصادق جسدها بكل هيئاته..
هي صديقة له بكل ما فيه من مغارات وكهوف ومخابئ مقفلة وسرّية.. تعلّمت مرافقته وكيف تصبح بيت أسراره.. يتبادلان الأدوار بهناءة ويُسر وطيب معشر.
الآن.. تتذكّر كيف كانت تخترع شخصيات وتمثيليات تقوم بها أصابع يدها حتى من قبل أن يعلق في ذهنها مسلسل الأطفال (عقلة الإصبع).
كأنها تستذكر ما قاله “نيتشه” في تخلّصه من كل شروط الحياة المعتادة: “لقد أخذت مصيري بيدي، وعالجت نفسي بنفسي، الشرط الأساسي في ذلك أن يكون المرء معافىً في جوهره”..
بالنسبة لها وفي الجوهر.. ميّزت حقيقة الأشياء في ظاهرها وفي العمق..
وعلى هذا الأساس تعاملت دائماً مع نفسها، مع جوهرها الذي تبصره كأجمل الإبصار والرؤية.
فتخلّصتْ من كل زخارف وشروط الحياة المعتادة لدرجة أصبحت تشبه نفسها (بالقصّاب) الذي يعلم تماماً كيف يفصل عظام الذبيحة عن اللحم.. بالعامية نطلق على الفعل (تشفاية)..
إنها “قصّاب” ماهر لأوقاتها ولأفعالها.. تختزل العيش.. وتكثّفه.. كمن يصنع عطراً عالي التركيز.