الثورة- هفاف ميهوب:
«ألزمتموني أن أعيش في واقعٍ، يصعب عليّ تحمّل مقوماته، فاسمعوا إذاً صرختي وتحمّلوها، وأوِّلوها كما شئتم.. أعدكم بألا أكفّ عن إسماعكم صراخي..»..
كلماتٌ، تحدّى بها الروائي الجزائري «الطاهر وطار» الإرهاب الذي تفّشى في وطنه، ودفع أغلبية مثقّفيه للهروب من عنفه ودمويّته.. الإرهاب الذي واجههُ بأعمالٍ هزّت مجتمعه الذي وجدها تجسّد، كلّ ما تعرّض له بعد الاستعمار الذي أحال أرضه، إلى ساحاتٍ للدمِ المسفوحِ بأيدي جماعاتٍ متطرّفة، اتّخذت الدين والسياسة مبرّراً للقضاءِ على كلّ من لا يوافق فكرها التكفيري وظلام عقيدته.
إنه ما تناوله في روايته «العشق والموت في الزمن الحراشي». الرواية التي وثّق فيها كلّ ذلك، بعد أن تيقّن بأن ما يفكّر به المتطرّف الإرهابي
«اليوم، يوم بثِّ الأفكار المسمومة والمستوردة. علينا أن نسفِّههم، ونؤلّب الرأي العام ضدهم. المهم أن نثير معهم معركة، نصطدم بهم.. من منكم يتولى أمر الفتيات الضالات؟.. لقد أحضرت زجاجة الأسيد، ينبغي أن تُصبَّ كلّها على وجوههن.. فعلٌ كهذا، ينزلُ الرعب في قلوبِ كل الجامعيات..»..
لم تكن هذه الرواية، هي الرواية الوحيدة التي هاجم فيها «وطار» عنف الجماعات التكفيرية، فقد توالت أعماله التي تناولت هذه الظاهرة التي تطوّرت، إلى ظاهرة مسلّحة ومهيمنة، وبعيدة كلّ البعد عن الرأفة والأخلاق والإنسانية..
بيد أنه أصرّ على تناول هكذا موضوعات، لاختلاف تفكيره بشكلٍ جذري، عن تفكير هذه المجموعات، ولشعوره بأن التاريخ يعيد نفسه، وبأن وطنه بأمسّ الحاجة إلى أدبائه ومثقفيه، في الوقت الذي هرب فيه أغلبيتهم، خوفاً من الإرهاب الذي هجّر وقتل الكثير منهم.
ها هو يعاود مواجهة هذه الجماعات، عبر «الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي».. الرواية التي جسّد فيها، ما عاشته الجزائر وجعل القهر والنزيف والموت، وكأنهم ضريبة على كلّ من يودّ العيش، أن يدفع ثمنها لأولئك الذين وصفهم:
«لم يُفهم من لغتهم، ومما هم يفعلون، سوى إطلاق الرصاصِ على أناسٍ في الطرفِ الآخر من الوادي.. ارتفعت حناجرهم تكبّر وتكبّر.. لقد فاض النهر بالجثثِ الحيّة والميّتة، واسودّ لون الماءِ مثلما لون السّماء..».
كلّ ذلك يؤكّد، أن روايات «وطار» واقعية، وإلى الدرجة التي اضطرّ فيها لسؤال التاريخ، عن كيفية تمكّن الإنسان من معايشة الفجيعة، الجثث، الأشلاء، الدماء.. أيضاً، عن كيفية فهمه لماهيته، وسط مشاهد الحرق والقتل والذبح، في زمنٍ يتباهى الإنسان فيه بحملِ سكينٍ أو ساطورٍ، وباعتناقِ الحقد والغدر والقتل والهمجية.
هذا هو الزمن الذي أبى «وطار» إلا أن يكون شاهداً على دمويّته.. زمن التطرّف والتوحش والعنف، وغير ذلك مما فاقَ الوصف الذي نقرأ منه في روايته:
«راهنوا على العنف.. انفتح الباب، كانت جثة الرجل مسجّاة في الوسط ومضرّجة بالدم.. هناك في الزاوية، وتحت الطاولة، يتخفّى طفل في السابعة من عمره. ارتفعت صرخته: أمي.. أمي.. أبي. هوى الفأس على الطاولة وعلى من تحتها. انفجر الدم في كلّ مكان.. في الزاوية الأخرى، تنكفئ امرأة على نفسها. في حضنها رضيع، تبذل أقصى جهدها ألا يلفت الانتباه، لكنه خانها.. الساطور يقسمُ الرأس المغطّى بمنديلٍ برتقالي اللون.. فارَ الدمُ، صارت الجدرانُ تتراقص.. توقّفت الحياة في المنزل»..
لم يكتفِ «وطار» بوصفِ حال الجزائر، يوم ذبحها الإرهاب التكفيري والسياسي، من الوريد إلى الوريد، بعد أن طعنها في قلبها، فقد وصف أيضاً، بطولات رجالها ونسائها المقاومين، وبعد أن خاطبها:
«إيهٍ يا عمري. إيهٍ أيّتها الجزائر الحبيبة. إنك تواصلين سيركِ في ليلٍ مجلّلٍ بالظلمات، وإن خطواتكِ إلى الأمام لمعجزة.. معجزة خارقة فهل تصلين؟.. هل تصلين وهل نصل؟.
إيهٍ يا جزائر إيه.. ثريا تمتشقُ خنجرها، وتربض عند الباب قائمة بالحراسة، ضد ما لا تدري كنهه، لكنها مقتنعة بأنه خطر إرهابي رجعي..».