الثورة _ هفاف ميهوب:
الترجمةُ حبٌّ قبل أن تكون لغة.. عملٌ إبداعيٌّ يتطلّب من المترجمِ، الاستجابة لما يترجمه بعمقٍ وأمانة مُطلقة، ذلك أن عليه «أن يتصدّى لأدقّ الظلال، وأن يعرفُ كيف يستنبعُ من لغته، الألفاظ والصيغ لاحتواءِ تلك الظلال، فيحقّق انتقال الشحنة الصورية والمعنوية من لغةٍ إلى لغة».
هكذا رأى الأديب والمترجم الفلسطيني «جبرا ابراهيم جبرا» الترجمة، وليس للآدابِ فقط، بل لشتى العلوم والمعارف التي «علينا أن نُقدم على ترجمتها بعقلانية وتنظيم، لأنها تتّصل بكياننا كأمّة، تريد الحفاظ على استقلالها وحرّيتها وتمايزها».
إنه ما جعله يبدعُ في ترجماته، ولا سيما للشاعر والمسرحي الإنكليزي «شكسبير».. ويُعدّ أفضل من ترجم له حتى يومنا هذا، ويُذكر بأنه شعر يوماً بالانزعاج وعدم السرور، وهو يرى مسرحية «هاملت» تعرض على التلفاز بترجمته ذاتها، ودون أن يُذكر اسمه، مع محاولة العبثِ بنصّها ومفرداتها.
هو موقفٌ، كان قد ذكرهُ في إحدى محاضراته عن الترجمة، وقد ذكره قصداً، لقيمة الترجمة الأمينة لديه، ولرغبته أن يوصل لقرّائه قناعته، ولطلابه رسالته:
«النصّ يحمل تماسكهُ الخاص به، كما أنه مشحونٌ ذهنياً وعاطفياً وأسلوبياً، بتلك الشحنات التي حاولتُ أن أضاهي بها الشحنة الشكسبيرية، وكلّ كلمة إنما هي جزءٌ لا يتجزأ من معمارها، وأيّ عبثٍ بالجزء يسبّب عيباً يصيبُ الكلّ، وبازدياد العبثِ بالأجزاء، تتناقص الشحنة التي صاغها المترجم، بكلّ ما لديه من حساسيةٍ وفهمٍ للأصل».
لم يكن انزعاج «جبرا» هنا، لأن القضيّة قضيّته، بل لأنه اعتبرها قضيّة كلّ مثقّفٍ، وكلّ مترجم، ولاسيما من ينقل إلى العربية، وتحتّم عليه مهمته:
«تنمية الفكر وهيكلة القيم، التي يتغذّى ويتقدّم بها المجتمع العربي بأوجهه كلّها».
فعلاً هو الحبّ.. الحبّ الذي استشعره ينبضُ من جهده اللغويّ الإبداعي.. هو أيضاً، الأمانة والصدق والاخلاص والأهم، الانتماء الذي دفعه لتحريضنا بشكلٍ دائم، وفي كلّ كتاباته وترجماته، على اليقظة والفهمِ والوعي، وعلى التمسّك بشخصيّتنا وقوميّتنا وحضارتنا، ومقاومة القوى التي تتهدّدنا، عبر إيصال المعارف والعلوم الإنسانية، إلى مجتمعاتنا وحياتنا..