الملحق الثقافي – رولا محمد السيد :
يعدّ الأديب والكاتب أيمن أحمد شعبان، من الباحثين الغني بمسيرته في التأليف والكتابة متعددة المجالات، فله رصيد كبير من الكتب السياسية والدراسات الفكرية والأدبية عبر مسيرته الغنية، وكتابه (قامات…. وقفات…. ذكريات….) إضافة جديدة في مسيرة الكاتب وللمكتبة العربية.
فإننا نتنقّل بين دفتي الكتاب نرى فيه حديقة متنوعة الورود والطيوب، حيث جاءت أغلب هذه المقالات توثيقاً لذكريات عاشها الكاتب مع أغلب هذه القامات، بعضهم أعلام في الفكر والأدب والصحافة أو علماء أو معلمون أو رجال دين أو دولة.
ولعل هذا ما يميز الكتاب، فهو يتحدث عن مبدعين في مختلف المجالات والميادين.. ففي مجال الأدب لاحظنا حواراته الغنية مع الكثير من أصحاب الإبداع الذين تحدثوا عن مسيرتهم الأدبية فيوجز في مقالاته أهم ما قدموا فكراً وأدباً..
قامات .. حملت أدباً وأفكاراً وعلوماً وأقلاماً مبدعة.. بعضهم غادرنا إلى جوار ربه فقيداً غالياً أو شهيداً عظيماً وكل كلمات الرثاء والألم عاجزة عن الوفاء لهم» لما تركوه لنا من إرث ثقافي وحضاري لا يموت، فهم في قلوبنا وعقولنا، وبهم يعتز الوطن ويفخر، وبمنجزاتهم تستمر الحياة.. أو طمعاً وبعضهم الآخر لايزال بيننا يعمل ويبدع في مختلف ميادين الأدب والعلم والفن، لأنه يعدّ العطاء حياة وأمل، ولأنه يؤمن بأن هناك من يريد أن يقرأ ويتنور.
ولذلك هم يستحقون منا الإضاءة على إنجازاتهم وإبداعاتهم، التي لم تتحقق بين ليلة وضحاها، كما لم تأت صدفة أو مغالبة أو اصطناعاً، وإنما هو التميز والعطاء كحصيلة جهود تكرست ومجهودات بذلت، فكان لتلك الأسماء شأوها، محتلة منزلة سامية في عالم الفكر.
إن مجرد الحديث عن هؤلاء الأحياء منهم والأموات والتذكير بهم، هو فعل فيه أصالة ورسالة ذات معنى لمن يضبون إلى دخول هذا العالم السحري الجميل الماتع عالم الأدب والعلم والثقافة.
بيد أن الذي بات مألوفاً وشائعاً عندنا هو أن يُحتفى ببعض المبدعين الراحلين من دون الالتفات إلى مبدعين أحياء يعيشون بين ظهرانينا، مما يفوّت عليهم التنوية بقاماتهم، والتعريف بهم وبسيرهم الذاتية والمعرفية ونشاطاتهم الإبداعية، ومنحهم بعضاً مما يستحقونه من الاهتمام والتقدير، أولاً: لكونهم عناويناً للتميز ورموزاً وطنية، وثانياً: لغني ما أبدعوه وما أنجزوه، وثالثاً: للمنفعة التي تتحصل للمجتمع من طاقاتهم وإبداعاتهم.
أما الوقفات التي تضمنها الكتاب، كانت مع تلك القامات الفكرية في تفاعلاتها المتميزة مع الواقع الثقافي أو العلمي أو الفني القائم، وذلك من خلال متابعة الكاتب أو حضوره أو اطلاعه على مختلف الأنشطة التي قاموا ويقومون بها من خلال محاضرات أو مقالات أو كتب أو بحوث مختلفة الأجناس أو ندوات فكرية أو ثقافية أو فنية أو حتى قراءة أفكارهم الإبداعية من خلال حوارات الكاتب معهم، أو لقاءاته الجانبية بهم..
ثم قيام الكاتب بدراسة أو تحليل أو تقييم أو عرض أو إيجاز هذا المنتج الفكري (بأنواعه) ونقله بأمانة وموضوعية وشفافية، وتجرد من كل الإرهاصات المقيتة، إلى وعي القارئ الحصيف ليشعر وكأنه هو من حضر المشهد أو الموقف وعاين حيثياته وخرج بفكرة عامة عنهم وعن أهمية المواضيع أو القضايا أو الأفكار المطروحة من قبل هذه القامات التي كانت تلعب دور البطولة فيها.
ويعتبر الكاتب أن الوقوف على نشاطات هذه القامات الفكرية وإنجازاتها العلمية أو الأدبية أو الفنية يساهم في ضخ الأجيال القائمة بالمعنويات الإيجابية المحفزة على توطيد ثقتها بثقافة أمتها ومثقفيها، فتتوثب للعودة للكتاب والقراءة، وترفد الحياة بما فيها من الأفكار الجادة والتطلعات الكفيلة بإحياء مجدها الأثيل.
في حين جاءت ذكريات الكاتب، تلك التي عاشها مع أغلب هذه القامات الفكرية.. بعضهم أعلام أو علماء، وبعضهم أصدقاء أو زملاء عمل أو قلم أو رفاق دراسة أو أساتذة أو رجال دين أو دولة .
وكانت له لقاءات ووقفات وأحاديث وتبادل آراء ورؤى وذكريات جميلة، وما أجمل لقاء الأديب بالأديب، وما أجمل اللقاء على كلمة طيبة في كل يوم، وما أجمل أن نلتقي لنحيي ثقافة، ونوقد شمعة، ونجعل من الأدب زاداً طيباً، وشراباً عذباً فراتاً لذة للشاربين، وصدق الشاعر الذي قال:
وإذا الأديب مع الأديب تلاقيا لا شيء أحسن منهما في مجلس
كانا من الآداب في بستان يتناثران جواهراً بلسان
لهذا أكد الكاتب على الاهتمام بالأعلام المبدعين في حياتهم أو بعد مماتهم مما ينم عن الحرص على الوفاء لهم.
ولكن.. أليس من الأجدى أن يلقى – المبدعون الاهتمام والحفاوة في أثناء حيواتهم ويذوقوا لذة تقديرهم وهم أحياء ؟!.. ولماذا نصر على دفن المبدع قبل أن نمنحه ما يستحقه منهما. إنها مسؤولية كبيرة علينا أن نحملها عرفاناً لمن أبدع وناضل من أجل إبداعه، فضحى وسهر وأنتج حتى بنى لنفسه كياناً وصار اسماً متميزاً عن سواه..
وهنا يحضرني قول فولتير لمن وعده بتقريظه في أشهر صحيفة بالعالم بعد مماته: (خير لي أن أقرأ كلمة طيبة عني في صفحة داخلية من أن تخصص لي الصفحة الأولى، وتكون عني بعد موتي.
أخيراً واعتزازاً بهذه القامات وغيرها ممن كتب شعبان عنهم في الجزء التالي من هذه السلسلة.. وقدم كتابه هذا لمن يحترمون العقل والإنسان والثقافة والحضارة، ويضيء في أعماقهم شعاع من نور العصر.. لا إلى الذين يشنون حرب الإبادة لطمس حقائق التاريخ، وفرض الكهف على الآخرين.
من أبرز هذه القامات عالم الآثار الشهيد د. خالد الأسعد الذي حمى الأسرار المقدسة حول مواقع الكنوز الأثرية، وعض على جراح التعذيب التي مورست عليه لمدة شهر كامل من الأسر، حتى دفع ثمن صبره وتفانيه وحبه لبلاده وكرامته العلمية والوطنية، بأن أعدم وقطع رأسه ومثل بجثته، فصار أيقونة تُضاف إلى الأيقونات التي نقشها أجدادنا بشغفهم على صخور البادية السورية.
كان سعد الله ونوس يبحث عن إطار أو وعاء يضع فيه أفكاره النهضوية، رافضاً الواقع، متمرداً على آلياته، متأثراً بالنزعة القومية والتقدمية والاشتراكية، معتقداً أن الصحافة التي درسها قد تشكل له رافداً في صوغ هذه الأفكار، ليجد في المسرح، رسالة تصل إلى جميع شرائح المجتمع، رغم حداثة المسرح في التربة العربية، معتبراً أنه أكثر الفنون قابلية لحل الصراعات الاجتماعية والجدل الفكري وللكشف عن الجوانب الإنسانية.
لم يثنه المسرح عن الكتابة في القصة والرواية والمقالات طالما تعبر عن أفكاره التي رافقته حتى آخر يوم في حياته التي كانت مليئة بالمعاني النبيلة.
الكاتب ديب علي حسن الذي لا يحرث أرض إبداعه إلا إذا كانت خصبة، ورغم تشخيصه للأثر السلبي الذي يلعبه الإعلام والثقافة إن تخليا عن قيمهما الإنسانية والحضارية، فقد باتا برأيه أداة بيد من يريد السيطرة والاستغلال والهيمنة على مصائر الشعوب.
التاريخ 17 – 9 – 2024
العدد 1205