الملحق الثقافي – آمنة بدر الدين الحلبي – جدة :
بدأ الليلُ ينسلُّ رويداً رويداً، وكأنني على موعدٍ مع ليلةٍ قمرية اكتملَ بدرها، واستدارَ رغيفها، وسطعَ جمالها، صوتُ الجنادب كانت أشبه بنغمات موسيقية تعزفها عندما تنشر جناحيها وتفتح فاها، فتصطدم نسمات الهواء بهما وتطلق أغنية نهاوند من الطنين والرنين، تحلق في فضاءات رحبة لا متناهية من القصر.
وأحياناً أخرى تكون السمفونية أكثر حناناً عندما تشعر الجنادب بالبرد ولم تجد من يدفئها بقبلة حانية فتفرك جناحيها إيذاناً لحرارة تهدئ من روعها.
سرحت مع عطر اليوفوريا الساحر والذي يُعتبر مزيجاً من زهور اللوتس والسوسن ونغمات عطرية من الأعشاب الخضراء المورقة، تسلل رذاذه إلى أنفي بعد أن غطى حديقة القصر الجميل بعبقه، وكأنني على موعد مع حورية من حوريات الليل الساحرة بعبق عطرها، وجمال سحرها المكنون في عينيها.
ومع توسط قمر الليل سماء القصر، اقترب عطر اليوفوريا مني أكثر وطغى على كل رائحة من روائح الزهور المتألقة في الحديقة.
حواسي كانت ترصد الأشياء بدقة لا متناهية، وقبّلت وجهي نسمة خفيفة من نسمات الليل لاعبت معها أوراق شجر النيم، فانتبهت بصيرتي واتّقدت لحركة ليست كالحركات… تسمرت في مكاني، لأن صوت الجنادب اختلط بصوت أنفاسٍ آدمية تعزف سمفونية الحب والحياة.
اقتربتُ أكثر، دُهشتُ لحورية هبطت من السماء، تتألقُ تحت نور القمر، مغسولة بعبق اليوفوريا الذي أخذني إلى عالم أكثر أنوثة، عالم يتمنطق بجمال أخاذ يحكي حكايات الأميرات على بلاط السلاطين، عبق المكان والزمان بعطرها الأنثوي الممزوج من جميع أنواع الزهور، والذي زادها جمالاً ساحراً، لؤلؤ عينيها مستوطنٌ في البؤبؤ، كنت أمام لوحة تشكيلية رائعة من لون عينيها وسحرهما، منعتني روحي من التواصل معها، كانت في حالة صوفية مريدة خالصة لله عز وجل، حالة نادرة من التوحد مع الله، والاتحاد في عشق إلهي، يتجلى تحت نور القمر.
ذكرتني بحالة الحلاج في العشق الإلهي عندما قال:
عجبتُ منك و منّي
يا مُنْيَةَ المُتَمَنِّي
أدنيتَني منك حتّى
ظننتُ أنّك أنّي
وغبتُ في الوجد حتّى
أفنيتنَي بك عنّي
يا نعمتي في حياتي
و راحتي بعد دفني
ما لي بغيرك أُنسٌ
من حيث خوفي وأمني
سمعت زفراتٍ لاهوتية في جنح الليل، لكن تلك الحورية أحست بوجودي فكسرت حدة الصمت المقيت وقالت: زائرة الليل تؤنس وحدتي؟؟؟
قلت: ربما تسمعُ صوتَ قلبكِ!!!
قالت: رائعة أنتِ … حالمة … هناك من يسمع صوتنا.. لكن لا يستطيع أن يسمع نداء قلوبنا المجروحة التي شقت عنان السماء في مؤامرات تضليلية بدأت في وطني بل نذرت بحربٍ لا تفي ولا تذر، ولم تنته بعد.
قلت: ما الأمر يا حورية الليل؟؟؟
قالت: اسمي المنتهى………… بعد أن سقطت اللآلئ من عينيها وحفرتْ أخاديد الزمن المر……….هذا العالم يدفعني إلى حتفي في المقابر لأنه لا يجيد أبجدية الحب ولا يعرف العزف عليها.
قلت: بالأحوال العادية هناك الكثير لا يجيد لغة الحب.
قالت: أعلم لكن حبيبي متفرد في إنسانيته، ضربات قلبه تسبق صوته، وأنفاس عشقه تصلني عبر الأثير.
قلت: إلى هذا الحد كان يحبك؟؟؟
قالت: أبوح لك بسر!!!
قلت : أجل.
قالت: الحرب سرقته مني، سرقت أجمل أيامي، متى نلتقي؟؟؟
قلت: هل أنتِ تهذين، هو يدافع عن الوطن.
قالت: في ليلة قمرية كهذه قال لي : أنا الليل …….. وأنت المنتهى…
بماذا أجبت؟؟
قالت: أسْرِج خيلك للمنتهى!!!
قال: خيولي مسرجة … بشوقِ عاشق…
قالت: احمل معك ترياق الحب لتصل بأمان.
قال: هو لكِ… وكان طفلاً مشاكساً في تلك الليلة، شاكسني بمحبة لا حدود لها، حتى كدتُ أنسى منفاي، لكن لم أكن أدري أنها كانت كلماتُ وداعٍ ليذهب إلى الحرب كي يدافع عن تراب وطنه عن أرضه عن عشقه الكبير الذي يستحق أكثر مني.
قلت: هل تعلمين يا حورية الليل، الوطن هو الرقم الصعب في حياة الإنسان فكيف إن كان قائداً في الجيش له مكانته في الدفاع عن أرضه، وعن وطنه، وليس أي وطن، هو يدافع عن مهد الحضارات، عن الإنسانية التي اجتمعت فيه، وشكلت إرثاً حضارياً مهولاً. لأن العدو على المحاور يزأر ويصيب أهلنا بجراح غائرة في عمق الجسد الإنساني وآخرها أقمار مصياف الذين قضوا من أجل الوطن وتركوا ثكالى، وأيتام وراءهم.
قالت: أعلم ذلك الوطن هو العشق الحقيقي هو الملاذ الآمن، هو الأم العظيمة التي تحتضن أبناءها، لكن أين مكاني أنا بين مهامه الوطنية؟
قلت: أنت من ضمن مهامه لكن الوطن يستدعيه وهو يلبي بحب ليكون مع رفاق السلاح جنباً إلى جنب، كي تعيشي معه على أرض طاهرة مقدسة يرفل الورد في ساحاته ويعرش الياسمين على حيطان قصر الحب، وها أنت تعيشين في قصر جميل وتقولين منفى يا حورية الليل؟؟
قالت: بل قولي أصبح سجن كبير بعد غيابه سرقته الحرب مني وهناك مثل شعبي يحضرني (الجنة بلا ناس لا تُداس).
صدقيني يا زائرة الليل كان حين يمر ترتعد مفاصلي عشقاً…. وعندما يغيب أراه في طريق السالكين حاضراً…
قلت: دعواتك ليعود منتصراً سالماً معافى يرعد بالحب ويغسل وجهك بريح أنفاسه الذكية المضمخة بعطر لأرض، بعطر الوطن؟
كان حديثها ضرباً من الصوفية العاشقة، يلامس شرايين قلبي، يقدم لها الحب على طبق من ذهب، ويقول لها فيما بعد جملته الشهيرة ابتعدي أخاف عليك الاحتراق، فأنا مرصود للدفاع عن الأرض حب الأرض أولاً وأولاً……..كانت ترددها بين الفينة والأخرى.
هو رجل والرجال قليل، جلّ اهتمامه الوطن لكن يعيش لحظة الحب وقلبه معلّق بعشق أكبر بعشق وطن ساحر، بعشقٍ لا مثيل له، بعشق طاهر طُهْر القديسين والأنبياء والأولياء الصالحين، يفوح من جنباته الورد الدمشقي والياسمين الشامي، عشقٌ تغنى به الأدباء والشعراء، يخلع نعليه حين يطأ أرضه المقدسة، ويسجد شكراً لله على ثراه الطاهر.
قطعت تمتماتي …
قالت: كان لقاؤنا عفوياً من دون ترتيب ومن دون سابق إنذار، وكان يقول ضاحكاً ـ القلوب شواهد ـ أحب لقاءك مجدولاً بالمحبة والحب من قلبك الكبير، لكن اعذريني إن تأخرت يوماً عليك لأن مهامي الوطنية أكبر منك، وأنا طوع أمرها، لأن أرض الوطن المستقلة هي التي تجمعنا للحب للحياة، وبدونها لا حب يرقى لنمارس عشقنا.
الحرب قاسية وعليّ أن أقوم بواجبي الوطني يا حبيبتي، ولن أطلب غير دعائك الجليل لنجتمع معاً على أرض الوطن الحر الجميل نشتمُّ عبق الياسمين ونقطفَ العنب والتين ورمان اللقبة، ونشتم رائحة الطيّون…. ونسير بين القلاع الجميلة، بأمان ويسر، وأنهى حديثه بغزل جميل.
لـ عينيكِ سحر الله ……..وحده يعلم سرهما وسحرهما.
كان لصوتها الذي يسري في شراييني تحت سكون الليل مظاهرة احتجاج، ولذبذباته لغة متناهية بالعشق، شعرت في تلك الليلة المقمرة عندما التقيا اختلسا القبل من قمريهما، وصوت الجنادب راقصتهما، فسطّرا أحلامهما بعد أن اتحدا بألوهية عشق لا متناهية.
وقطعت حبل تأملي لعينيها الساحرتين مع فجر الصباح، بين شفتيها حديث الجوى فقلت لها امتد لسان الصباح يا حورية الليل ووقفت شهرزاد عن الكلام المباح.
التاريخ 17 – 9 – 2024
العدد 1205