د. محمّد الحوراني:
لا شكَّ في أنّ الحربَ التي شنَّها الكيانُ الصهيونيُّ على حزب الله وحاضنتِه الشّعبيّة في عُمومِ الجغرافيا اللبنانيّة كانت كبيرةً وغيرَ مسبوقةٍ ومُؤلِمةً في آنٍ واحد، ومعَ أنّ هذه الحربَ القَذِرَةَ “الهجينةَ” ليست جديدةً على كيانِ العدُوِّ الصهيونيّ وعلى إجرامِ قادتِه، لكنّها أخذَتْ أشكالاً جديدةً من أشكالِ الحروبِ القذرة، ولا سيّما لجهةِ عدمِ التمييزِ بينَ حَمَلةِ هذا النَّوعِ من أجهزةِ الاتِّصال “البيجر”، ذلك أنّ من يذهبُ إلى لبنانَ يعرفُ تماماً أنّ قسماً كبيراً من المدَنيّينَ في المُستشفياتِ والمراكزِ الصّحّيّة والفنادقِ وفي بعضِ المتاجرِ الكبيرة يتواصَلُونَ بهذهِ الأجهزة، مِنْ غيرِ أن يعنيَ هذا أنّ بعضَ أفرادِ قُوى المُقاوَمة لا يستخدمُ هذا النّوعَ من أجهزةِ الاتّصال، ومِنْ ثَمَّ فإنّ الهدفَ الرئيسَ من هذه القذارةِ الصهيونيّة إحداثُ شَرْخٍ في العلاقةِ بينَ المُقاوَمةِ وبيئتِها الحاضنة، خاصّةً أنّ مئاتِ التفجيراتِ التي حدثَتْ في توقيتٍ واحد أدّتْ إلى إصاباتٍ وتَشوُّهاتٍ كبيرةٍ في الرأس والأطراف، كما أنّ قسماً منها أدّى إلى بَتْرِ الأطراف، وهذا يعني أنّنا أمامَ المئاتِ من المُصابِينَ العاجزِينَ عن القيامِ بأيِّ دورٍ في مُجتمَعِهمْ وفي رعايةِ أُسَرِهِمْ وعوائلِهمْ، وهو هدفٌ لم يتحقّقْ لهذا العَدُوِّ على الرَّغمِ من حُروبِه واعتداءاتِه المُتكرِّرةِ على لبنانَ وفلسطينَ وسُورية والعراقِ واليمن وغيرها من دُوَلِ محورِ المُقاوَمة، بل إنَّ إمْعانَ العدُوِّ الصهيونيّ في عُدوانِه وإجرامِه كان دافعاً إلى مزيدٍ من التمسُّكِ بالأرضِ وخلْقِ أساليبَ جديدةٍ في التَّصدِّي للإجرامِ الصهيونيِّ بأشكالِه كافّةً، ودافعاً إلى مزيدٍ من الالتفافِ حولَ المُقاوَمةِ وقُواها القابضةِ على جمرِ الخلاصِ والتَّحرُّر.
وإذا كانَ بعضُهم يرى في حرب “البيجر” أسلوباً جديداً من أساليبِ الحربِ الصّهيونيّة على المُقاوَمةِ ورجالِها، فإنّ التاريخَ القريبَ يُؤكِّدُ أنّ العدُوَّ الصهيونيَّ لجأ إلى هذا الأسلوبِ قبلَ أكثرَ من خمسينَ عاماً، وتحديداً في عمليّةِ اغتيالِ القياديِّ في مُنظَّمةِ التحرير الفلسطينيّة “محمود الهمشري” بتفخيخِ هاتفِه في منزلِه في العاصمةِ الفرنسيّة، كما نجحتْ وكالةُ الأمْنِ الداخليِّ الصهيونيِّ عامَ ١٩٩٦ في الوصول إلى هاتفِ القياديِّ في حركةِ حماس الشهيد “يحيى عياش” وتفخيخه، لكنَّ الفارقَ بينَ ما كانَ يحدُثُ سابقاً وما يحدثُ اليوم، هو أنَّ العدُوَّ الصهيونيَّ انتقلَ من سياسةِ التفخيخِ الفرديِّ للأجهزةِ إلى سياسةِ التفخيخ الجماعيّ، وهذا يعني أنّهُ يرغبُ في إحداثِ بلبلةٍ وتفكُّكٍ داخلَ البيئةِ المُقاوِمَة، ودَفْعِ قُوى المُقاوَمة إلى ردٍّ شاملٍ على التفجيرات، وهو ما يعني توسيعَ دائرةِ الحرب وجَعْلَها حرباً مفتوحةً وشاملة، بعدَ عجزِ العدوِّ عن إيقافِ الدَّعْمِ والمُسانَدةِ اللُّبنانيّة للمُقاوَمةِ في فلسطين، وهذا ما جعلَ العدُوَّ يترنّحُ أمامَ ضرَباتِ المُقاوَمةِ على الرَّغْمِ من مُحاولاتِهِ المُتكرِّرةِ إخفاءَ خسائِرِهِ وعددِ قتلاه، وبعدَ عَجْزِ القادَةِ الصهاينةِ عن تحقيقِ أيِّ نصرٍ في حربِ الإبادة التي يَشنُّها الكيانُ على قطاع غزّة والضفّة الغربيّة.
كما أنّ عمليّةَ التفخيخ والتفجير من شأنها أن تُؤدِّيَ إلى مُشكلةٍ كبيرة في التعامُلاتِ التجاريّةِ الدّوليّة، وإلى انعدامِ الثِّقةِ بينَ بعضِ الشَّرِكاتِ ومَنْدُوبِيها وعُمَلائِـها حولَ العالم، مثل: “غولد أبولو” التايوانيّة، و”بي إيه سي كونسالتينغ” المجريّة، وهذا أحدُ واجباتِ الاستخباراتِ الصهيونيّةِ وَفْقَ صحيفة “نيويورك تايمز” التي أكّدتْ إنشاءَ شَرِكتَينِ وهْمِيّتَينِ للمُساعَدةِ في إخفاءِ هُوِيّاتِ الأشخاص الذينَ كانوا حقّاً يُنتِجُونَ أجهزةَ “البيجر”، وهم ضُبّاطُ استخباراتٍ صهاينة.
إنَّ ما حدثَ من عُدوانٍ صهيونيٍّ هجينٍ على الشّعبِ اللُّبنانيِّ بتفخيخِ آلافِ أجهزةِ الاتّصالاتِ والـمُدّخراتِ وغيرِها من إلكترونيّاتٍ وأجهزةٍ تعجُّ بها بيوتُ الشّعبِ اللُّبنانيّ، إنّما يرقى إلى مُستوى جرائمِ الحربِ وَفْقَ ما أكّدَهُ موقعُ “ذا إنترسبت” الذي قالَ إنَّ قانونَ الحرب يحظرُ استخدامَ الفِخَاخِ أو الأجهزة الأُخرى في شكلِ أشياءَ محمولةٍ غيرِ ضارّةٍ ومُصمَّمةٍ ومبنيّةٍ لاحتواءِ الموادِّ المُتفجِّرةِ خصوصاً، وأكّدَ الموقعُ أنّ كيانَ الاحتلال ولُبنان وافَقا على هذا الحَظْرِ الذي أُضِيفَ إلى القانون عام ١٩٩٦.
أخيراً، لا بُدَّ من القولِ إنّ ما ارْتَكَبَهُ الكيانُ الصهيونيُّ في لُبنانَ يُشكِّلُ سابقةً خَطِرةً في تاريخِ الحروب، لكنَّ ما حدثَ لا يعني، في حالٍ من الأحوال، أنَّ العدُوَّ كَسَبَ المعركةَ، ذلكَ أنّ الهزيمةَ التي مُنِيَ بها بعدَ معركةِ “طُوفان الأقصى” لا تزالُ فُصولُها تتجدّدُ معَ كلِّ ثباتٍ وفعلٍ مُقاوِمٍ تنهضُ بهِ المُقاوَمةُ
اللُّبنانيّةُ والفلسطينيّةُ واليمنيّةُ وغيرُها من قُوى المُقاوَمةِ في دُوَلِ المحوَر، ومعَ أنَّ الهُجومَ الإلكترونيَّ الصهيونيَّ كانَ نكسةً لحزبِ الله وَفْقَ ما قالَتْهُ مجلّةُ “فورين بوليسي” على لسان “دانييل بايمان”، لكنَّ التّوازُنَ بينَ الكيانِ الصهيونيِّ وحزبِ الله لا يزالُ مُتعادِلاً على نحوٍ خَطِرٍ، ولا يُمكِنُ للكيانِ الاعتمادُ على تأثيرِ الهُجوم، كما لا يُمكِنُ استبعادُ التصعيدِ إلى حربٍ شاملةٍ كارثيّة، ولا سيّما بعدَ اسْتِهدافِ الكيانِ الصهيونيِّ الضاحيةَ الجنوبيّةَ بغارةٍ عسكريّةٍ أدّتْ إلى وُقوعِ عشراتِ الشُّهداءِ والمُصابِينَ بعدَ يومَينِ من اعتداءات “البيجر” الدامية.
إنَّ نجاحَ الاستخباراتِ الصهيونيّةِ في الوُصولِ إلى هذهِ الأجهزةِ بتزويرِ البياناتِ التي سمحَتْ لها بأنْ تكونَ عارِضاً للبيع، أو بكونِها حقّقتْ اختراقاً أمنيّاً مَكَّنَها مِنْ أن تكونَ وسيطاً في عمليّةِ الشِّراء، أو البحثِ في احتمالِ أن يكونَ العدُوُّ قد اكْتَشَفَ آليّةَ شِراءِ الكمّيّة، وعَمِلَ على اعتراضِ الشحنةِ في طريقِها إلى لبنان، واستبدَلَها بأجهزةٍ أُخرى فُخِّخَتْ سابقاً، أو أنَّ التفخيخَ حدَثَ في مقرِّ الشَّرِكةِ المُورِّدَة… إنَّ هذا النَّجاحَ، على أيِّ حال، كفيلٌ بأنْ يُعِيدَ حزبُ الله النَّظرَ في إستراتيجيّتِهِ الأمنيّة، وأنْ يُحصِّنَ دِفاعاتِهِ وأدواتِهِ في المعركةِ على نحوٍ يَجْعَلُهُ أكثرَ حصانةً وقُوّةً أمامَ مُحاوَلاتِ العدُوِّ الصهيونيِّ اختراقَ مَنْظُومَتِهِ الأمنيّةِ والعسكريّةِ مُستقبَلاً.