الملحق الثقافي- منصور الحاتم:
الفنان فواز قبلان الحاتم ولد في خبب عام 1911 م محافظة درعا (خبب) توفي والده وهو في سن السادسة ،وعاش في رعاية أمه وجده الشيخ مفلح الحاتم.
قد تكون القصة أغرب من الخيال، ولكنّها ليست بالتأكيد من نسيج الخيال ولا من تداعيات الغرور، بل هي قصة واقعية جرت أحداثها في حوران بين قرية خبب وباريس، وقد تناولت تفاصيل القصة قبل أكثر من نصف قرن وتحديداً عام 1951م السيدة «أمينة السعيد»مديرة التحرير في مجلة الهلال.
بدأت عندما قامت مريام هاري وهي زوجة الرسام هاري بزيارة سورية لتقيم بين ربوعها شهوراً متعاقبة تدرس من خلالها عادات السوريين في البدو والحضر، وكان ذلك في الربع الأول من القرن العشرين وذلك تمهيداً لوضع قصة جديدة عن حياتهم العامرة بشكل ممتع وطريف.
تنقلت هاري في ربوع سورية واستقرّ بها المقام في حوران في قرية اسمها خبب وجدت هناك أحلامها من حيث الكرم والجمال الفطري وبدأت تسجل في أوراقها ما تلمسه من عاداتهم واتجاهاتهم. في المساء كانت تجلس في الليوان الكبير تسرح نظرها في الداخل والخارج من بيت الشيخ مفلح الحاتم أصبحت هذه الجلسة محورتغييركبير في حياتها،إذ حدث ذات يوم أن شاهدت من مكانها صبياً لا يبلغ التاسعة من عمره ولكنّه يمتطي جواده الأبيض الأصيل في مهارة ملحوظة تكسبه مظهرالأمير الصغير، وكان وجهه ملائكياً في حسنه.. ولسبب لانعلم به دق قلبها بسرعة وتعلقت عيناها في لهفة بالفارس الصغير..وظلت صورته عالقة بذهنها طوال اليوم التالي فشغلت عن دراستها وكتاباتها وجلست تنتظره، وتحققت أمنيتها فرأته بعد قليل يقترب من الليوان بادلها النظرات وتكررالأمر يومياً، دعته للجلوس معها فقبل الدعوة وقدّم نفسه قائلاً: إنه يتيم الوالدين واسمه (فواز) وقال لها في سذاجة: (ليتك كنت أمي.. فإني أحبك كثيراً..).
كانت محرومة من الأبناء فبدأت تمهد الطريق لصداقة أهله وبالغت في صداقتهم..
بعد إلحاحها الشديد استطاعت أن تأخذ معها (فواز) بحجة إكمال دراسته في مدينة دمشق وسجلته في مدرسة الفرير، وفي العام التالي استأذنت جدّه وتوجّهت به إلى باريس قبل أن يغير الجدّ رأيه، وذلك في عام ( 1911 ) وفي باريس تبدّل اسمه ( فواز) وأسمته بيرو، وأعطته اسم عائلتها، فصار لديها الصبي الفرنسي المدلل، وكان أمل أمه أن تجعل منه سفيراً أو وزيراً، أما هو فكان يتوق إلى حياة الفن من رسم ونحت وغيرها، حيث يعيش زوجها، ولم يكن يجرؤ على معارضة رغبة أمه، فدخل كلية الحقوق وتخرّج منها، وانتظر بعد تخرجه التعيين في السلك الدبلوماسي، ولكنّه قبل أسبوع من التوجه إلى السلك الدبلوماسي تقدّم إلى امتحان في معهد الفنون الجميلة، وبالوقت نفسه جاءه خطابان، الأول: خبر نجاحه في مسابقة المعهد، والثاني: التعيين في السلك الدبلوماسي.. أخبر والديه بالأمر، فإذا بهما على غير ما كان يتوقع يفرحان بما يريد وتركا له الاتجاه الذي يحبّه، وهكذا اتجه إلى الفن..
(ازدادت شهرة بيرو) فقصده الملوك والحكام والزعماء يطلبون إليه أن يرسمهم بريشته السحرية، ولما ازدادت شهرته تنبهت إليه الأوساط الفنية العالمية فكانت تستعين برأيه في دقائق الأمور، وتعمل بمشورته في القضايا الشائكة والصعبة، ومن ذلك عندما أنشأت الولايات المتحدة الأميركية متحفها الفني بمدينة واشنطن طلبت إلى الحكومة الفرنسية أن تعيرها خبيراً ممتازاً يقرر قيم اللوحات الموجودة في ذلك المتحف ويكشف من أصولها وتواريخها فوقع اختيار فرنسا على (بيرو هاري) دون غيره.
كان فواز يتقن خمس لغات، يتميّز بشخصيّة جادّة، اشتهر في فرنسا حيث أقام العديد من المعارض ثم اوفدته الحكومة الفرنسية إلى العديد من المعارض الأوروبية والأميركية وصار حكماً فيها ،ولاسيما عند تقييم اللوحات الفنية.
سعى فواز منذ عهد بعيد إلى إيجاد مدرسة للفن يكون رائدها، حيث بشر بأفكاره ومبادئه في العديد من دول العالم مثل اليونان وتركيا وإيران وأميركا والبلدان الأوروبية، وأوفد أكثر من مرة إليها ممثلاً للدولة الفرنسية فاكتسب خبرة واسعة طابعها إنساني خصب، وهيأت له هذه الفرص إلقاء العديد من المحاضرات وإبداع الكثير من اللوحات الفنية واتصل من خلال هذه اللقاءات بأساتذة الفن العالمي، وعمق علاقاته بالهواة والمحترفين والنقاد وكثف الجهد للإحاطة (بمعطيات تساوق الألوان وتنافرها في مختلف التقاءات الضوء والظل). وهذا الإبداع جل ما تسعى إليه نفس كلّ فنان يخترق المحلية نحو العالمية في مجال الفن.
كما برع فواز في الوقت ذاته بجميع فروع وقواعد الرسم والنحت، وتقاطرت إليه شخصيات عالمية ليخلدها ببراعة ريشته.
وقد كانت لوحاته الفنية تباع قبل دخولها المعارض تهفو إليها قلوب الهواة لاقتنائها.
أما أشهر لوحاته فهي ( ذات الفراء الأبيض) وهي لسيدة مصرية معروفة اسمها (جميلة محفوظ) فدخلت اللوحة متحف الفن الحديث، وبعد ذلك متحف اللوفر…
عاد إلى وطنه سورية عام 1953 م وبقي عدة أشهر بدعوة من الرئيس السابق هاشم الأتاسي ومن خالد العظم ومن خليل مردم بيك وشكري القوتلي. وخلال وجوده في سورية رسم العديد من اللوحات وأقام معرضاً في دمشق، كما صمم في نفس العام معرض دمشق الدولي….
لقد كتبت مربيته (ماري هاري) الكاتبة رواية عنه اسمتها (الأمير الصغير) وعنت بها فواز وقد ترجمت هذه الرواية إلى عدّة لغات منها اللغة العربيّة، كما وردت في العديد من الصحف والمجلات مقالات تتحدث عنه وعن فنّه .
كان الراحل الكبير يجيد العديد من اللغات كاليونانية والإنكليزية والألمانية إلى جانب الفرنسية والعربية.
كما بقي يردّد بعض الأغاني الشعبية القديمة مثل:
مهيرتي ما بيعها لو وزّنوها بالذهب
وقد احتفى بالعديد من أبناء وطنه في باريس.
في عام 2009 غاب الفنان «بيرو هاري» عن عالمنا عن عمر ناهز المئة عام عاشها حيث حط رحله في عاصمة الفن والجمال في باريس التي جمعت بين ظهرانيها كبار الأدباء والفنانين، بقي خلالها على علاقة مع وطنه وأهله في سورية.
العدد 1206 –24-9 -2024