الملحق الثقافي- أيمن أبو شعر:
على خشبة المسرح الثقافي بدمشق ( أبي رمانة ) كانت أمسية الشاعر الكبير أيمن ابو شعر حين زار الوطن , وكانت رائعته التي تؤرخ بحبر الدم مكابدات الألم السوري, وكان قد سبقها صدور مجموعته الشعرية الجميلة عن الهيئة العامة السورية للكتاب تحت عنوان : سلام مواعيد قلبي دمشق , وبعدها جاءت ايضا عن الهيئة مسرحيته (رجل الثلج ) ولكن الذروة التي تجعلك تقف أمام الجرح الذي غدا أكبر من مساحات الروح والجسد , ملحمته (تغريبة أهل الشام ) والتي سوف تصدر قريا كما أشار الشاعر , تصدر ضمن مجموعة تحت العنوان نفسه , عن الهيئة العامة السورية , الملحمة التي يروي فيها الشاعر حكايا الألم والأمل شلال من اللهفة والحنين والرواية التي تمزج بين الكثير من عناصر الدهشة التي تجعلك أمام سيناريو يستعيد آلاف السنين , يكثفها يقدمها , يرويها , يضعها في شرايينك , لايمكنك أن تغادرها , وكما كانت ملحمة الشاعر ثائر زين الدين مشاهد سورية , نابضة بهذا كله , تأتي تغريبة أهل الشام , ليكونا معا من ديوان الالم السوري, من جرحه من حبر الحرب , وما اغزره , ولكن ليس كل الحبر حبرا , بعضه ماء سريع لايروي , ولايقدم , ليس مضمخا بدماء من ارتقوا لنبقى , هنا الأمر مختلف تماما , تمضي وأنت تحمل روحك بين يديك , تعبر أفق الوطن بين قوافل الشهداء , تتراءى أمامك أحلام كانت وعبرت , واخرى تولد مع زهرة تنمو فوق فوق ضريح شهيد , مع عودة كل حرف ولثغة كل طفل , الملحمة طويلة وطويلة , لكنها دفقة واحدة , ببنية عضوية وقدرة فنية على السبك وشد القاريء إلى مرافئها :
تغريبة أهل الشّام
النشيد الأول
«في الحدث»
حينَ انطلقتْ من شاطئِ فيروزٍ وزَبرجَدْ
تغريبةُ أهلِ الشامِ الكُبرى نحو المجهولِ الأدرَدْ
كانتْ روحي ذاكَ البحارَ المُجهَدْ
وعلى درجاتِ المَركبِ كنتُ على جرحي أصعَدْ
الحلمُ سفينةُ رحلتِهم كانت كنداءٍ ذاكرتيْ
والرؤيا كانت أشرِعتَيْ
أتخبَّطُ فوقَ المركِبِ نحوَ المِقوَدِ باللمس…
أستجمعُ محموماً بأسي
لم يُكسَر بَعْدُ الصاري
والرعد صدىً لصدى هَمسي
أتبينُ سمتَ الإبحارِ
الظّلمةُ شدقٌ مفترسٌ والموجُ كأنيابِ اليأسِ
وأنا أتمسَكُ كالملهوفِ بحبلِ نهاري
الريحُ تصارِعُ أشرعَتيْ
تَتَمَرى بي كي تعصفَ عكسي
دوارٌ أوهامٌ تترى تتماوجُ كالجسدِ العاري
كنتُ المتفائلَ مثلَ العاشقِ كانتْ أغنِيَتي شمسيْ
واليومَ يُغادِرُني أمسي
لا ألمحُ آفاقاً لِغَدي
وأيادٍ تدنو… مُنقِذَتي أم قاتِلتي؟
الطعنةُ غارتْ في كبِدي
عبَرَتْ كالومضَةِ خاصِرَتي
لكنّي ألمحُ سكيناً ما زالتْ تقطرُ وسطَ يَديْ
….. من أجبَرني أنْ أرحلَ للزمنِ النحسِ
زمنٌ أعماني أدماني كعويلِ المأتمِ في العرسِ
يتهدَّجُ صوتي مهموساً لأخطَّ الروحَ بأشعاري
إمّا أنْ نعلو كالعنقاءِ معاً كشعاعٍ للفجر الضاري
أو أحفرَ بالإيقاعِ الدامي هوةَ رَمسي
وأنا أدري ما ينبئ حَدْسي:
أنّي أذْ أرثيكم… أرثي نَفسي
النشيد الثاني
«في الحدث»
ويساوِمُني وهمُ النسيان:
قد جاوَزْنا قِمماً وصخورْ
وعبَرنا اوديَةَ المَحذورْ
في دربِ الثلجِ لنا بَصَماتْ
في دربِ الشوكِ لنا عَثَراتْ
كم كادتْ تبلَعُنا الغاباتْ
فلننسَ هنا عِندَ الشطآنْ
آلامَا يحضنها الماضي
فالقادم سرٌ مجهولٌ
لن يوضِحَهُ النصلُ الماضي…
«في الرؤى»
لا لنْ ننسى كلَّ الماضي
لن ننسى القهرَ جدارَ السجنِ ووجهَ القاضي
لا لن نَنسى طعن القُربى بوجيفِ القلبِ الراضي
العقربُ يبصمُ بالمِهمازْ
لِيُمَوِهَ جرحَ الطعنةِ بالألغازْ
لا لن ننسى
فالجدولُ يذكرُ إنشادَ الغيماتِ المُزناتِ المَطِرَةْ
لمّا حضَنَتْهُ رذاذاً حتى حازْ
من نُطقِ الماءِ خريراً كالإيجازْ
لحنَ الأشعارِ المُنهَمِرَةْ
كمجازِ الرؤيا حينَ يُكوَّنُ في رحمِ الإعجازْ
استغفِرُ أغنيَتي
حتى الخشبُ المحفورُ بنافِذَتي
في بابِ الغرفةِ في الكرسيِّ وِطاوِلَتي
لم ينسَ حنينَ النسغِ رضاعاتِ اليخضورْ
لكنَّ السمَّ الناغلَ فينا
يتبدّى أكسيراً خمراً كي يُنسينا
أن التغريبةَ باركَها عتمُ الديجورْ
سكّان الكهفِ غزوا كاللعنةِ وادينا
واختاروا الزيفَ لنا دينا
كي نُرمى مثلَ جنينٍ مَيْتْ
بولادةِ عُسرٍ مُبتَسَرَةْ
وتُسجِلُنا امواه الأنهار العكِرة
إرهابا صِفراً أو نكِرَةْ
من أجبَرنا أن نهجرَ كالقطعانِ أراضينا؟
…عتمُ الديجورْ
بالوهمِ رضينا حينَ مَضَينا نستَهديْ أَثرَهْ
كفَّرْنا العودَ وقطَّعنا حنقاَ وتَرَهْ
توَّجنا بالأحزان أغانينا
من أخرجَنا من وادينا؟
عتمُ الديجورْ
أوما كُنا ندري أنّا أغلقْنا أفاقَ الإبداعِ بأيدينا
وبأنّا حينَ نبارِكُ عقدَ قِرانِ المُهرَةِ والبَغلْ
ستجنُّ خلايا الخلقِ وجينوماتُ النوع ستختلّْ
سنذيبُ ملامِحَنا مِحناً مِحَنا
مِنّا من تُربتِنا مِن صبوَتِنا
وسط الثَمَرَة
يَتوالَدُ فينا دودُ الخَلْ
يتكاثرُ مثلَ حشودِ النملْ
في حضنِ الأخشابِ النَخِرَةْ
ما زالتْ تحتَضِرُ الخضراءُ الفارِعَةُ النَضِرَةْ
وسيخْرُجُ من ذاكَ الرحمِ الهادي مسخٌ حَشَرَةْ
ما أقسى جرحاً من فأسٍ غاصتْ بِلِحاءِ الوصلْ المنتَحِرة
من يبلغُ عني أعناق الشجرِ المقتولِ بنصلٍ قد شطَرَهْ
أن المخلَ الخشبيَّ ذراعَ الفأسِ المُنتَصِرَةْ
هوَ غُصنٌ مِن تلكَ الشجَرَةْ
النشيد الثالث
«في الحدث»
لا تأكلْ أسماكَ المتوسطِ مهما جعتْ
فيها من روحِكَ أنتْ
مازالت فيها نكهةُ لحمِ الغرقى
كل الماتو ظلماً مازالوا أحياءً صِدقا
يا صامتُ وحدكَ في سَفْرِ التغريبةِ مُتْ
أولادُكَ أبناءُ الحارات وجيرانُكْ
أحزانهمو أحزانُكْ
همساتُ البلدةِ آذانُكْ
موالُ السهرةِ الحانُكْ
لن تنأى عنكَ ولن تنأى عن وشي الجبهة ألوانُكْ
يا أشجار التحنان أجيبي هل رَحَلتْ يوماً
عن جذعِكَ أغصانُكْ
قل أينَ ستنتأى: جدرانُ الجيرةِ جدرانُكْ
أطفالٌ ما عرفوا البسماتِ طوالَ سنينْ
قد أولمَهُمْ للبحرِ سماسرةُ التنّينْ
وكلاءُ الموتِ وأنجسُ خلقِ اللهِ الحمقى
كسروا الأفُقا
بِحِرابِهمو سَنَدوا العُنُقا
ألقت أحلام الناس عصاها
في البحرِ الواعد ما انشقّا
عبروا أهوال الدربِ الصعبِ وفي الآماقْ
تتلألأُ مرآةُ الآفاقْ
غصباً عن كلِّ قواميسِ اللهفةِ حزناً عِشقا
دوّى صنجٌ كالأقدارِ انطلقتْ تغريبةُ أهلِ الشامِ الأنقى
لا حلْماً بالأرقى بل هُم ولّوا هَرَباً من مَقدورٍ أشقى
النشيد الرابع
«في الحدث»
قد ظل الحلم بأن نلقى مأوى وِمراسي
أملاً بالطاعمِ والكاسي
مذ غادرْنا الشطَّ القاسي
انكبَّ على الشطِّ الكَبِدُ
أطفالٌ لا يُحصى العددُ
ما زالَ على الرملِ الجَسَدُ
جرحٌ قد أدمى أكواناً مُذ أنَّ لمرآهُ الأبدُ
«في الرؤى»
من أبعدَنا عن أهلينا لنخوضَ بحورْ؟
عتم الديجور
ماذا تعني عتمُ الديجور؟
مصاص دماء شعوب الأرض ومهنته حفار قبور
بيت قد يبدو مبيضا مثل الطبشور
وبجوهره وكر ماخور
يا من تحتالُ على الأفكارْ
وتظنُّ الحادي قد يَنهارْ
إن نُحتَ وصِحتَ لتفزَعَهُ
والحادي يحسبُ أنَّكَ مذعوراً ستوَلي الأدبارْ
إن هزَّ أمامَكَ إصبعَهُ
من أدخلَ هذا الثالوثَ الموبوءَ الملعونْ
سرَطانٌ وجذامٌ طاعونْ
سرطانٌ حل بشرق النهر شقيقي عقَّ وبايعَهْ
ولسوفَ يبيعُ شقيقي بالمجّانْ
وبحوضِ النفطِ سينقعُهُ
وهلالُ جُذامِ بني عثمانْ
أبناءُ الملَّةِ تتبعُهُ
أمسوا خدَماً عندَ السلطانْ
قلْ كيفَ الخادمُ يمنعُهُ
واستشرى بِجنوبي الطاعونْ
شلَّ ابنَ العمِّ وقوقَعَهُ
من أدخلَ هذا الثالوثَ الموبوءَ الملعونْ
عَسْفُ الفَرضِ وعُنْفُ الرفضْ
هل قمعٌ إذلالٌ وسجونْ؟
أو بيعٌ أموالٌ وذقونْ؟
كن ضدَّ الحادي أو معَهُ
من غيرِ جُنونْ
كُنْ خصماً طيفاً يتحدى
كُن حصناً درعاً يتصَدى
أو جاورْ حباً أضلعَهُ
اسمعْهُ صوتَكَ رناناً شلالَ وعيدٍ واسمعَهْ
لا تستَجدي سربَ الحيتانِ لتصرَعَهُ
كي تأخذَ غصباً موضِعَهُ
النارُ إنِ اشتَعلَتْ حرقا
فستومض طلقاتٌ برقا
ترديكَ وتخطئُ مصرعَهُ
وستوغل في الثدي الأنقى
كم أرضعَكَ التحنانَ وأرضعَهُ
العدد 1208 – 8 – 10 -2024