الملحق الثقافي- آمنة بدر الدين الحلبي- جدة:
بين سكن الليل في ليالي باريس رقدت الحياة عند الفنان عفيف بهنسي أطفأ سراج الحقوق الذي سافر من أجل دراستها، وأشعل مارد الجمال الذي انتفض من بين همس الروح ليكمل مشوار حياته بين الفن التشكيلي بأنواعه تارة، وتارة أخرى في البحث والتنقيب ليؤرخ لمرحلة جديدة من مراحل الفن التشكيلي. فسكب بياض الدراسة على مذبح النحت وغير جبهات الحياة بمعول فنه، ورصد الجمال بفأس حجارته ليحصل على دكتوراه في تاريخ الفن من السوربون عام 1964. سرقه سحر الفن العربي وجمالياته من كلّ شيء حين دخل هيكل عشتار حاملاً مشعل الإبداع، وأوقد مباخر النحت ليتصاعد منها عبق القد المياس في منحوتاته، وشكّل من خلال مؤلفاته المتنوعة والمختلفة ـ التاريخ للفن العربي الحديث ـ الذي جعله ديدن البحث والتنقيب واعتُبرت مؤلفاته مميزة في هذا المجال لقلة التجارب التي اتجهت إلى كتابة هذا التاريخ، من أهمها :»جمالية الفن العربي» و»الفن العربي بين الهوية والتبعية». وأظهر الدكتور عفيف بهنسي مفهوم الجمال بمعناه الفلسفي باعتباره قياس تأثير، ومدى انغماس الفنان بالعمل الفني وإخراجه بصورة مغايرة وألقة حين ينجح في تصويرأشدّ انفعالاته المتوخاة عمقاً. سواء كانت جذابة ومشرقة، أم مظلمةً ومنفرة. ولكون الدكتور والمؤرخ عفيف بهنسي أستاذاً في علم الجمال، كان يرى أن علم الجمال الغربي لا ينطبق على الفن العربي والإسلامي، ونظراً لموقعه كعالم للجمال بمنمنماته الرائعة وأبحاثه الكثيرة رأى :»جمالية متخصصة في الفن العربي»، وعن هذا الموضوع وضع رسالته التي نال عنها دكتوراه الدولة من السوربون 1978م، وتناول فيها جمالية الخط والرسم والعمارة والزخرفة. واستلهم كتاب الفن العربي بين الهوية والتبعية بدايات الفن الحديث في البلاد العربية والفنانين الذين استلهموا الجمالية الإسلامية محاولين العودة للجذورواسترداد الهوية الأصلية ويعج هذا الكتاب بصورلأعمال فنانين استلهموا الجمالية الإسلامية بكلّ تفرعاتها. وعلى مدى سنين من عمره الفني الطويل كان منغمساً في عشق دمشق أيقونة العواصم وباحثاً في كلّ ركن من أركانها، وجالت أبحاثه في كلّ حجر من حجارتها ليسطّر جمال العمارة الدمشقية الجميلة المنتمي إليها روحاً وجسداً، والتي ظهرت جلية للعيان في أعماله الجميلة ومنمنماته الأنيقة، حين التفت إلى غياب الحديث عن فن العمارة بشكل متخصص فاجتهد في تقديم «موسوعة التراث المعماري»، ووضع كتاب «العمارة العربية الجمالية والوحدة والتنوع». وكان مشروع بهنسي الذي حاول الكشف عنه معرفة التراث الفني العربي الضخم وتقديمه بأسلوب مميز حيث كشف عن أصوله وسماته وهويته من خلال كتب متسلسلة وضخمة فصلت الجمال من خلال دقائق الأثير، حين تنقله العين، وتحيكه الرؤى من خلال موسوعة مؤلفات منها الأصالة والحداثة وعلم الجمال وآثار الفن والعمارة. لذلك تشير كتب المؤرخ العظيم الدكتور بهنسي إلى مرتكزات فكرية مهمة بنى عليها جلّ أبحاثه حين اعتبر العمارة الإسلامية وعاء للفكر الإسلامي القائم على التوحيد، ونظر إلى التصوير الإسلامي من خلال المنظور الروحاني الذي تجلى في الفراغ، والزخرفة والرقش بوصفها صيغة للتعبير عن المطلق والوجود، ومن خلال القيم الروحانية اعتبر الخط العربي تجلي في تكوين الحرف العربي وتركيب الكلمات.
ولن ننسى أن المؤرخ الدكتور بهنسي اهتم مثل كثير من أبناء جيله من المثقفين في تأسيس أكاديميات ومراكز وصروح أكاديمية وثقافية مختلفة، فعمل على تأسيس كلية الفنون الجميلة في دمشق بعد أن سافر إلى مصر في فترة الوحدة، حيث وقع على القرار آنذاك وزير الثقافة المصري ثروت عكاشة وأمر بتنفيذه جمال عبد الناصر، كما اشتغل بهنسي مع آخرين على تأسيس عدد من المتاحف السورية ونقابة للتشكيليين. من أهم مؤلفاته «الفنون التشكيلية في سورية»، و»الفن عبر التاريخ»، و»الفن الحديث في سورية»، و»تاريخ الفن في العالم»، و»الفن الإسلامي»، و»معجم مصطلحات الفنون»، و»الفن والاستشراق»، و»وثائق إيبلا»، و»فلسفة الفن عند أبي حيان التوحيدي».
قدم الراحل للمكتبة العربية والعالمية أكثر من 70 كتاباً نالت شهرة عربية وعالمية ترجمت مؤلفاته إلى لغات أجنبية عدة شارك في تأليف موسوعات عالمية ووضع كتباً بلغات أجنبية وهو أحد أبرز الأسماء العربية التي اشتغلت في تاريخ الفن والآثار. وعمل أستاذاً للتّاريخ والفن والعمارة في عدة جامعات عالمية وعربية، وفي جامعة دمشق منذ 1959 م نال عدة أوسمة وميداليات تقديراً لأعماله ومساهماته العلمية. وهو عضو ومؤسس في عدة جمعيات ومعاهد منها عضو جمعية البحوث والدراسات نشر أبحاثه في الصحف والمجلات السورية والعربية والعالمية، وقام بتصميم شعارات فنية مختلفة وقد تمّ تسمية مركز بسام بكورة سابقاً للفنون التشكيلية باسم الفنان عفيف بهنسي لكونه مؤرخاً وفناناً تشكيلياً رائعاً، وأول نقيب للفنون الجميلة قدّم الجمال على طبق من ذهب لأجيال قادمة في سورية العظيمة، وعاش كلّ المجالات الإبداعية والثقافية والفنية والفكرية والفلسفية، فطالع منها روائع الجمال ، حيث قام بدور كبير في إثراء المعارف والبحث عن مكنونات النفس البشرية، وغاص في الروح الإنسانية ليطالع منها ألق الجمال لاعتباره دائم البحث عن مكنونات الحضارة والتاريخ في سورية، لاعتباره رائداً في علم الآثار والمتاحف، وأسَّس الكثير منها في سورية، وعندما استلم مديرية الفنون الجميلة 1971-1989 كان دائم البحث عن مكنونات الحضارة والتاريخ في سورية المدهشة بكلّ ما تملك من مقومات الحضارة والجمال الذي كرّس كلّ حياته في هذا العلم وكان واضحاً في قصصه الذي كان يسردها في «مجلة الآداب» وغيرها ما هي إلا تعبيرعن مواقفه الاجتماعية والإنسانية والعروبية والقومية. ولم يأل جهداً بالاطلاع على التاريخ القديم الذي كان مغرماً بالاطلاع عليه ودراسته، متسائلاً عن الإنسان القديم في العصور الحجرية؟ لدهشته الكبيرة بـ سورية الجميلة وتاريخها الممتد على مدى سنين من عمرها الطويل ومواقعها التي تعود للعصور الحجرية، وتحمل حضارات إنسانية تعجُّ بالثراء والجمال الذي كان يسلب الألباب ويخطف الأبصار فكان يدونه عبر كتبه ومقالاته، ويعزز النظرة الجمالية بمفرداته حين كان يسرد عن الفنانين وعن تاريخ الفن والعمارة حتى وجد نفسه باستطاعته أن يحقق أفكاره عملياً، فسُعد حين دعاه وزير الثقافة للالتحاق بوزارة الثقافة ليكتشف حياته حين بدأ مديراً للفنون وانتهى مديراً للآثار والمتاحف. بعد تأسيسه لكلية الفنون الجميلة وضع بهنسي مجموعة من الكتب وصل عددها لنحو 82 كتاباً، شملت موضوعات في الآثار وعلم الجمال والعمارة والفنون العربية والإسلامية والفنون التشكيلية، تُرجِمَ بعضُها للّغتين الإنكليزية والفرنسية، وهو يقول في هذا المجال: «عندما ذهبتُ إلى باريس وجدتُ أنه لا يوجد مراجع باللغة العربية حول الفن والعمارة العربية والإسلامية فأردت أن أسد ثغرات في المكتبة العربية فكتبتُ في المجلات، وعندما أصبحت فعالاً في كلية الفنون ومشرفاً على مراكز الفنون كان لا بدّ من أن أصدر الكتب والمؤلفات التي لها علاقة بالتاريخ والفن والعمارة وفلسفة الفن العربي». مهما تكلمت عن عالم الآثار والمتاحف والمؤرخ لن أفيه حقّه لما قدّمه للجمال وعلم الجمال.
العدد 1209 – 15 – 10 -2024