ديب علي حسن
ربما كان يجب أن يكون العنوان (حضارة الطين ) على اسم كتاب المفكر السوري الراحل شاكر مصطفى الذي صدر في خمسينات القرن الماضي وفيه أطلق مقولته المشهورة.. لقد جعل العلم منا أنصاف آلهة قبل أن نستحق أن نكون بشراً، وتوقف عند ما أطلقه علماء الغرب من صيحات تحذير من أن التقدم التقني والعلمي غير المنضبط بالقيم الأخلاقية سوف يؤدي إلى دمار البشرية ..أو على الأقل يطلق الوحش البشري الذي في أعماقنا ليفترس ويدمر كل شيء..واللافت في الأمر أن التقدم التقني لم يسخر لخدمة الإنسان بل لقتله كما تفعل آلة الحرب الصهيونية التي تستخدم أحدث تقنيات التقدم العلمي الغربي..من طائرات وقنابل وحروب سيبرانية وغير ذلك ..وفي الدراسات الحديثة يرى الكاتب العراقي محمد عاكف جمال أن التقدم، يقاس في أحيان كثيرة بحجم التطور المادي، ليس في ذلك من ضير، فالحديث عن التقدم ليس بالضرورة حديثاً عن التحضر.. فقد كان العلم، العامل الأول الذي رفع من مستوى معيشة الإنسان، وقلل من معاناته، فدافع الإنسان الذاتي نحو حياة أفضل، هو الذي يكمن وراء التطور المادي الذي نشهده في حياة المجتمعات.
إلا أن صناعة حضارة، يتطلب أكثر من ذلك بكثير، يتطلب صناعة قيم إنسانية.. من أبرز سمات عصرنا الحالي، الدور الخطير الذي يلعبه توءم العلم والتكنولوجيا، في مختلف نواحي الحياة.. هذا التوءم الذي صنع لنا الكثير من المعجزات، ومع ذلك، ينتابنا القلق، في بعض الأحيان، مما قد يجلبه لنا من ويلات، فهو يقبع مهدداً مستقبل البشرية.
تتطور العلوم والتكنولوجيا، في عصرنا الحالي، بقفزات واسعة وسريعة، ولغرض استخدام قدرات هذا النمو لفائدة البشرية، ينبغي أن تنمو معها، وبشكل مواز، منظومة قيمية، تردع الاستخدام الذي لا يلتزم، بالقواعد الدنيا من متطلبات السمو الإنساني..في العقود الأخيرة من السنين، وبالرغم من تركيز العلم الطاغي، على ما هو مادي، تعزز الاعتقاد أن الإنسان، أكثر من مجرد جسد، يسعى إلى الامتلاء شبعاً ولذة.. فقد أفرزت الدراسات البينية، خاصة في مجال علوم البيئة، مفاهيم حضارية جديدة، مثل مفهوم «أمومة الأرض»، الذي يعكس نشوء فهم لعلاقة عضوية، بين الإنسان والطبيعة، ومفهوم «نسيج الحياة»، الذي يعبر عن تفهم لطبيعة العلاقات بين الكائنات الحية والبيئة.
وتعززت عقيدة «التوحد»، التي تعتبر الطبيعة، بعناصرها الحية وغير الحية، منظومة واحدة، تتكامل مع بقية المنظومات في الكون.. وواضح كم لهذه الطروحات من دلالات على بداية تشكل نظرة جديدة، ذات بعد أخلاقي، في الأوساط العلمية، فهي بدايات سوف تعمل على تغيير الكثير من التقييمات لأفعالنا..التكنولوجيا والأخلاق.
بينما يرى فرانك كليش في كتابه المهم “ثورة الأنفوميديا”..أن التكنولوجيا بطبيعتها متعادلة القيمة، فالسيف كأي تكنولوجيا لا يختلف عن الصخور والهواء أو الماء، أي أنه خامة تكنولوجيا.. إنه ببساطة مجرد خامة جامدة والأشياء بذاتها لا تحمل قدراً من الخير أو الشر وإنما البشر هم الذين ينفثون فيها الحياة باستخدامهم إياها ويضفون عليها خصائص معنوية وأخلاقية، هل هناك تكنولوجيا تحمل طبيعة شريرة متأصلة فيها؟
إن ذلك وجهة نظر كل واحد منا.. فعلى مر العصور كان البعض ينظر إلى تكنولوجيا ما على أنها مفيدة بينما يراها البعض الآخر مصدراً للضرر والأذى..وحتى اليوم لا ينبغي الخلط بين التكنولوجيات والأخلاقيات.. ولنأخذ الطاقة النووية كمثال فإننا نزود مدننا بهذه الطاقة كما نصنع القنابل ونشيد الغواصات النووية.. وعندما يتم الترويج للقنابل والغواصات على أنها أسلحة للدفاع ليست للهجوم فإن الخط الفاصل بين الخير والشر يصبح ضبابياً غير واضح المعالم ولنضرب مثالاً آخر بالبلطة.. فمن الممكن استخدامها في تقطيع أخشاب أو في ارتكاب جريمة قتل.. وهكذا نجد أن أي تكنولوجيا ما هي إلا أداة والأدوات يمكن استخدامها لأغراض متعددة فهي مجرد عدسة لأمة تركز الاهتمام على جميع القضايا الأخلاقية والمعنوية التي يتحتم على المجتمع أن يتوافق معها..ولعلنا نذكر بقول أحد الفلاسفة الغربيين ( لو أن سعادة العالم كله تقوم على قتل طفل لما فعلت ) .فأين هذا الغرب المجنون الآن من فكر فلاسفته ..إنها التوحش الإنساني الذي سخر كل التقدم لروحه العدوانية.