حسين صقر
لأن الصدق عالم لا يفهمه إلا الصادقون، وجوهرة لا يثمنها إلا ذوو العقول الحكيمة، ويقال: « فهو المنجي وإن خفته، والكذب مرديك وإن أمنته»
ولهذا على الإنسان قول الصدق وإن قتله، وبالتالي الصدق لا يقتصر على صدق القول فقط، بل يشمل أيضاً صدق الفعل والحال، وصدق الحال أن يتطابق ما بين ظاهر سلوك المرء وباطنه، فلا يكون مرائياً أو متظاهراً بما ليس حقيقته وواقعه.
والصدق من الإيمان ليست مجموعة من الحروف تؤلف كلمة لا معنى لها، بل على العكس يُبنى عليها مجتمع بأكمله، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتزام الموعد واحترام الوقت وتقدير جهود الآخرين.
الكثير من الناس اليوم لا يهمه الصدق ولا يعنيه بشيء، بل وفوق ذلك ينظرون للإنسان الصادق الملتزم بأنه شخص ساذج، ويغلّفون هذا الوصف الذي لا يقدرونه في داخلهم بكلمة «طيب» حتى باتت كلمة الطيبة مكروهة لدى الصادقين من القلة القليلة في المجتمع، فيما المؤسف في الأمر أن كثيراً ممن لا يصدقون يتبوؤون مناصب مهمة، ويحملون أجزاءً كبيرة من المسؤولية، ويعملون في مهن يجب أن يكون أساسها الصدق، وتراهم يكذبون ويكذبون، لظنهم أن الكذب ملح الرجال، متناسين أن الكذب ليس ملحاً أبداً لأن الملح مادياً هو ما يعطي الطعام نكهته ليسهل ابتلاعه وهضمه، ومعنوياً يرسخ العلاقات بين الناس وقديماً قالوا» فلان يقدر الخبز والملح، وفلان لا» متناسين أن عدم الصدق بالتعامل يهدم بنيان العلاقات ويقوض ثقة الناس ببعضهم، ويزرع الكره ويزعزع الود، وهو عادة سيئة تبنى عليها باقي الكبائر، لأن الإنسان الذي يعود نفسه على الصدق يعتاد على الفعل الصالح الجميل.
فقط لا تكذب
وقديماً أيضاً جاء شخص يرتكب كل الموبقات إلى الرسول الأعظم» عليه السلام وأخبره بأنه يريد التوبة، فقال له النبي: فقط لا تكذب، وذهب الرجل وكلما أراد افتعال شيء من الكبائر يتذكر وصية «لا تكذب»، إلى أن تاب فعلاً.
فالحرفي عندما يلتزم بموعد تأدية ما طلب منه، والمهني والطبيب والمحامي والصحفي والمعلم والموظف والعامل والفلاح، وكل مع ما يخصه، يصبح المجتمع برمته صالحاً سليماً، والصدق من الإيمان كالرأس من الجسد، مقولة كنا رددناها لفترة طويلة، ولم نكن نعرف قيمتها وأهميتها، حتى افتقدنا وجودها وعزت علينا حروفها، انعدم رصيدها عند الكثيرين، غير مدركين أنه إذا اختل ميزان الصدق عند الإنسان اختل توازنه وأصبح هشاً تتقاذفه رياح الأحكام.
وقال المحمودون سابقاً : «لأن يضعني الصدق، وقل ما يفعل، أحب إلى أن من أن يرفعني الكذب، وقل ما يفعل». وقال: «قد يبلغ الصادق بصدقه ما لا يبلغه الكاذب باحتياله».
فكثيرون من الأشخاص يقطعون على أنفسهم الوعود والعهود والمواثيق، فلا يلتزمون بأداء عمل، ولا يسددون ديناً ولا يحترمون موعداً، ولا يؤدون ما طلب منهم في العمل، وتراهم يسيرون بين الناس وكأن شيئاً لم يكن، وفوق ذلك يتحدثون عن بطولاتهم وإنجازاتهم، وتتضخم الأنا عندهم كورم خبيث.
بالمناسبة كثيرون ممن يتحدثون عن عدم الالتزام وعدم الصدق، تظنهم للوهلة الأولى أن السيئين يعيشون في كوكب آخر، ومن يزعمون الصدق يعيشون على كوكبنا، وهم المظلومون الأبرياء.
في عملنا كصحفيين نواجه الكثير من هؤلاء، حيث نكرر الطلب والسؤال والاستفسار ونجري الاتصالات تلو الأخرى، ونتحدث على وسائل التواصل مع الغالبية العظمى من هؤلاء، وقلائل جداً من يلتزمون بالإجابة والرد، والسواد الأعظم «على الوعد يا كمون» حتى تمل السؤال والاتصال.
ليبقى السؤال، لماذا أضحى الصدق والالتزام عملتين نادرتين، وباتت قيمتهما لا تساوي شيئاً، في وقت يجب أن ترتفع قيمتهما طرداً مع تعافي المجتمعات، حيث الصادق مع الآخرين يكون صادقاً مع نفسه، لأن الصدقُ قارب نجاة في الدنيا والآخرة وطريق للهداية وطريق عبور نحو شواطئ الأمان، ويُساعد في إحقاق الحق والحفاظ عليه، وطريق الانتصار على الشر الذي يتولد في داخلنا، كلما شذت أنفسنا عن القاعدة والطريق، فهو لا يقبل تزييف الحقائق أو السير بعكسها، والإنسان الذي يتحرّى الصدق في جميع أقواله وأفعاله ينال رضا الله، ويكسب محبة الناس ويُسهم في انتشار الخير والمحبة.
