حي القابون شاهد على جرائم نظام الأسد.. ترسانة من “التشريعات” المجحفة للاستيلاء على ممتلكات الأهالي وتهجيرهم بالإرهاب والتدمير
الثورة – تحقيق ثورة زينية:
في شهر تموز من عام 2015 ألقى رئيس النظام المخلوع بشار الأسد خطاباً زعم فيه “أن الوطن لمن يدافع عنه ويحميه، وأن الشعب الذي لا يدافع عن وطنه لا يستحق أن يكون له وطن”، وقصد بالشعب الذي لا يدافع عنه ملايين السوريين الذين خرجوا ضده في عام 2011 وقابلهم بالإرهاب والقتل والصواريخ والكيماوي في جميع محافظات سوريا.
ويعتبر ريف وضواحي العاصمة دمشق إحدى تلك المناطق، التي شهدت عمليات حربية لسنوات، أفضت بين عامي 2017 و2018 إلى فرض السيطرة العسكرية الكاملة لقوات النظام البائد، والميليشيات المساندة له، وتهجير مئات آلاف المدنيين قسراً، تاركين وراءهم منازل وأراضٍ وممتلكات.
وقبل دخول قوات النظام البائد إليها كانت ملامح هذه الممتلكات قد تغيّرت كلياً على وقع القصف الجوي والبري الذي نفذته بشتى أنواع الأسلحة، بينما تحولت بعد فترة السيطرة إلى أطلال ورماد بفعل عمليات هدم وتجريف وتفجيرات.
حي القابون الدمشقي
يعتبر حي القابون شاهداً قوياً على تلك الانتهاكات التي غيرت شكله بحيث لم يعد ممكناً التعرف عليه، وتقف أطلال الحي الدمشقي المُدمر شاهدة على مدى إجرام نظام الأسد المخلوع، وكفاح السوريين من أجل نيل الحرية.
كان حي القابون حتى الستينيات من القرن الماضي جزءاً من غوطة دمشق الشرقية، بنمطها الريفي القائم على زراعة الأشجار المثمرة، وكانت تتبع إدارياً إلى العاصمة المحدّثة والموسّعة دون أي تخطيط عمراني حديث يلبي حاجاتها السكانية.
وهكذا فقد تدريجياً طابعه الزراعي لمصلحة توسّعات سكنية كان معظمها عشوائياً، وساهم التقلص في مساحة الأرض القابلة للزراعة في تحوّل أهالي القابون منذ الثمانينيات من الزراعة إلى مهن جديدة كتجارة السيارات وإصلاحها في ورشات أخذت تنتشر بكثافة في منطقة المعامل، غربي منطقة القابون الصناعية، وعلى جانبي الطريق الدولي كما أقيمت منطقة صناعية وتوسعة طريق العدوي الذين جرى استملاك أراضيهما.
خط إمداد للغوطة الشرقية
مع مطلع العام 2011 ردّت قوات النظام البائد على المظاهرات السلمية في حي القابون بقمع مفرط، لتبدأ المعارضة المسلحة، وقوات النظام البائد بتبادل السيطرة على أجزاء من المنطقة وانصب هاجس النظام الأمني خلال 2013 على منع تحوّل القابون إلى صلة وصل بين المعارضة الثائرة في دمشق وغوطتها الشرقية، فقام بطرد سكان أطراف الحي الجنوبية والشرقية، لكن المعارضة عادت وأحكمت سيطرتها على الحي.
وفي عام 2014 أعلن عن وقف غير رسمي لإطلاق النار مع قوات النظام البائد بالتزامن مع هدنة برزة مطلع2013، وتمكن ثوار المعارضة عبر شبكة أنفاق طويلة تصل إلى عربين وحرستا، من تحويل القابون إلى مدخل الغوطة الشرقية المحاصرة وتأمين خط إمداد لها بالغذاء والمحروقات.
تهجير قسري
وبعد ثلاثة أعوام على الهدوء النسبي في المنطقة، وبين شباط وأيار 2017 شنت قوات النظام المجرم حملة عسكرية كبيرة انتهت بتهجير الأغلبية الساحقة ممن تبقى من سكان القابون إلى الشمال السوري، حيث استخدمت قوات النظام البائد في أيام المعركة الأخيرة ذخائر شديدة الانفجار بهدف إحداث دمار كبير في العمران، ما جعل المنطقة غير قابلة للسكن، ولم يعرض على فصائل الثوار أي اتفاق يتضمن البقاء في المنطقة، بل جرت مفاوضات استسلام، وبعد دخول قوات النظام البائد إلى الحي، ومباشرة بعد التهجير تم التعاقد مع مجموعات من المتعهدين، وبدأ المكتب الأمني للفرقة الرابعة التي كانت تحت إمرة المجرم ماهر الأسد عمليات هدم لمعظم أبنية القابون وتدوير أنقاضها بذريعة عدم سلامتها الإنشائية باستخدام جرافات ومواد شديدة الانفجار قبل تثبيت الحقوق العينية فيها للسكان.
القابون الصناعي
شكلت منطقة القابون الصناعية نموذجاً عن العلاقة المتوترة بين محافظة دمشق ومدخلها الشمالي في عهد النظام البائد، فالمنطقة الصناعية تحوّلت إلى أرض محروقة حيث تعرّضت لدمار كبير، وكانت الوحيدة من نوعها في دمشق، وقد اختصت بصناعات النسيج والمواد الغذائية وحقن البلاستيك والدهانات والمطاط وقطع تبديل السيارات وضمّت معامل متوسطة وصغيرة أغلبها للقطاع الخاص، وأخرى كبيرة تتبع للقطاع العام.
وعلى الرغم من أن القابون الصناعي منطقة طابو أخضر، مرخصة ومؤسسة بمرسوم جمهوري، ومنظمة بمخطط تنظيمي حديث وجميع مصانعها مرخصة ترخيصاً صناعياً وإدارياً، إلا أن ذلك لم يشفع لها من عمليات هدم لكل منشآتها كنوع من التحطيم الاقتصادي إلى وجود نقمة على أهالي الحي الذين شاركوا في التظاهرات والانتفاضة في وجه النظام.
نموذجان للتدمير والاستيلاء
خلال الحرب تغيرت مصائر السكان والعمران في مدخل دمشق الشمالي الشرقي وفق نموذجين، الأول: تدمير واسع النطاق، وتهجير المجتمعات المحلية المؤيدة للثورة والرافضة للمصالحة، والثاني: تدمير منخفض الحدة وبقاء السكان الموالين للنظام أو المصالحين له.
أما في مرحلة ما بعد النزاع، فإن تفاعل محافظة دمشق مع هذين النموذجين يُعيد تشكيل علاقة العاصمة مع سكان وعمران ضواحيها القريبة، ففي النموذج الأول، تجري إعادة التنظيم والتحضير وإعادة الإعمار من دون أخذ حقوق المهجَّرين بالاعتبار وفي الثاني يجري التحضير ببطء لعملية التنظيم، مع تعليق تنفيذها نتيجة استمرار وجود السكان في المناطق المنظمة سابقاً، أو نتيجة رفض سكان العشوائيات للتنظيم.
ترسانة تشريعية
استخدم النظام المخلوع ترسانة من الأدوات التشريعية للاستيلاء على الممتلكات الخاصة للسكان من دون وجه حق أو اتباع الإجراءات القانونية الواجبة أو التعويض، مثل هذه القوانين خلقت عوائق كبيرة أمام عودة اللاجئين والنازحين الراغبين في استعادة ممتلكاتهم وإعادة بناء حياتهم.
توطئة للتهجير القسري
فلا توجد منطقة هتفت ضد الأسد المخلوع إلا وتم تدميرها أولاً، ومن ثم يعاد تنظيمها بموجب القانون رقم 10 لعام 2018 والذي صُمم للاستيلاء على أملاك المهجرين واللاجئين حيث أعلنت حكومة نظام الأسد البائد آنذاك مساعيها للاستيلاء على المناطق التي هجرت أهلها منها عقب العمليات العسكرية في قلب العاصمة دمشق، بحجة إعادة تنظيمها العمراني من جديد زاعمة أنه سيتم تعويض أصحابها بالطرق القانونية، في مسعى لهندسة المجتمع السوري، بما يخدم ديمومة النظام المجرم في السلطة، ولكنها في الحقيقة كانت جريمة توطئة للتهجير القسري.
ويعد القابون أحد الأحياء التي خططت حكومة النظام البائد لتفكيكها وإعادة بنائها، بموجب تشريعات أثارت الجدل، والتي تسمح بمصادرة الأراضي والشراكة مع مستثمرين من القطاع الخاص لتطويرها، ففي أيلول 2021 صدر المرسوم 237، ونص على إحداث مناطق تنظيمية في مدخل دمشق الشمالي (القابون وحرستا)، مستنداً إلى المخطط التنظيمي التفصيلي الذي يحمل رقم (104) والمصدّق من مجلس محافظة دمشق، في حزيران2019، ويغطي المخطط نحو 200 هكتار (2 مليون متر مربع)، من مناطق القابون وحرستا، وذلك لإقامة مشروع يضم أبراجاً سكنية وتجارية وخدمية، إضافة إلى مبانٍ استثمارية ومستشفيات ومدارس ومراكز خدمية للمدينة.
صدر هذا المرسوم من رئيس الجمهورية المخلوع واعتبر القانون رقم 10 هو الإطار القانوني النافذ على المرسوم 237.. لكن السلطات البائدة تجنّبت ذكر اسم القانون رقم 10 لعام 2018 في متن المرسوم 237 تفادياً لإحداث رأي عام محلي ودولي ضدّ المرسوم.
المرسوم 237
يندرج المرسوم رقم 237 ضمن عائلة المراسيم والقوانين العمرانية المتعلقة بتنظيم وعمران المدن والتي تعرف باسم قوانين التخطيط الحضري للمستوطنات البشرية، ويهدف المرسوم (الذي حدد منطقتي القابون وحرستا)، لتنظيم أو إعادة تنظيم أي منطقة عمرانية واقعة ضمن المخطط التنظيمي العام، سواء أكانت تحتاج لإعادة إعمار أم لا تحتاج، وسواء أكانت من مناطق السكن العشوائي والمخالفات أم لا.
والمرسوم يعطي الصلاحية الكاملة لمجلس المحافظة لتنظيم أي بقعة جغرافية دون محددات، ما يعني حرفياً امتلاك الرخصة بهدم أي حي أو منطقة لا ترغب الحكومة السورية بوجودها.
معوقات منعت المطالبة بالممتلكات
لقد برع النظام البائد في تصميم إطار قانوني وسياسي يسمح له بفعل ما يريد تحت ستار شرعي زائف، يستطيع من خلاله انتهاك حقوق الناس تحت ستار الشرعية.
ومن المآخذ الكبرى على المرسوم رقم 237، هو توقيت إصداره، والمهلة القصيرة الممنوحة للناس لتثبيت حقوقها (30 يوماً)، ولاسيما أنه يشمل مناطق منكوبة هجرها سكانها بسبب النزاع، أو مناطق اعتاد الناس فيها على التملك خارج السجل العقاري (بموجب أحكام محكمة أو وكالات عدلية أو وثائق عادية) ورتب المرسوم 237 لعام 2021، أعباء قانونية وبيروقراطية وإدارية لأصحاب الحقوق العقارية في القابون وحرستا، والذين هم في أغلبهم من السكان النازحين-اللاجئين، من ناحية قدرتهم على إثبات ملكياتهم وهم في بلدان اللجوء أو مناطق النزوح.
إنّ جزءاً من سجلات الملكيات العقارية المحلية السورية قد دمّرت أو أتلفت خلال النزاع، مع عدم إمكانية الناس إلى الوصول لها في الوقت الحالي إن وجدت، علماً أن 50% فقط من الأراضي والعقارات في سوريا كانت مسجلة رسمياً حتى قبل النزاع، مما خلق إشكالات تتعلق بعدم قدرة الكثير من الأهالي من العودة ضمن المدة القانونية الممنوحة لهم أو حتى إرسال قريب أو وكيل لإثبات ملكيتهم، حيث أن أغلب اللاجئين والنازحين يفتقرون إلى الوثائق الرسمية، والتي هي أوراق وثبوتيات ضرورية لتقديم مطالبة بالملكية وتعيين وكيل قانوني.
كما أن المعامل الصناعية الصغيرة والمتوسطة في القابون بدمشق لن تعود للعمل حيث أصبحت مناطق التنظيم في القابون بموجب المخطط التنظيمي مناطق أموال واستثمار، وليست مناطق صناعية أو زراعية، مع العلم أن ملكية الأرض التي يقوم عليها المصنع ستبقى للصناعي صاحب المعمل، في حال استطاع إثبات ملكيته، ولكن بعد أن يكون قد خسر كل شيء آخر.
لقد سبب إغلاق المصانع في المنطقة الصناعية بالقابون خسائر بالنسبة للصناعيين وبطالة طالت عشرات الآلاف من الأسر، في حين أن المستفيد من هذا الإجراء جهات من ذيول النظام البائد تعمل بالباطن على الاستثمار العقاري لتجني أرباحاً خيالية.
لقد ارتكب النظام الأسدي المخلوع جرائمه فقتل واعتقل وعذّب وهجّر السوريين ودمّر البيوت فوق رؤوس أصحابها، وأصدر قانون الإجرام رقم (10) لعام 2019 لمصادرة أرضهم بعدما ترك لشبيحته مهمة نهبها.
واليوم، وبعد أن رحل النظام الديكتاتوري البائد يعود أبناء الأحياء المدمرة ليستعيدوا ذكرياتهم، وكلهم أمل بأن تسعفهم الحكومة الجديدة بقرارات تعيد إليهم حقوقهم المسلوبة، وترمم شظايا انكساراتهم على مدى الـ14 سنة الماضية من عمر ثورة الحرية.
#صحيفة_الثورة