الثورة – رنا بدري سلوم:
قرابة الثلاثين عاماً، وأنا ما زلت أذكر صوت معلّمتي في المرحلة الابتدائيّة إلى اليوم حين كنت أخطّ قصائد الربيع وأخربش على هامش الكتاب وأسرح في عالمي الحالم، ويعلو صوتها “انتبهي للدرس واتركي الدفتر”. صور شتى تحتّل ذاكرتنا عن معلمينا ومن منّا ينسى الملاحظة الأولى التي تلقاها من معلمه ليعي العبرة أو يقتدي بنصيحة “لن تقلع شوكك إلا بيديكَ” فتعلّم، من منّا لا يذكر معلماً أبكاه طويلاً وبعد طول سنين صدّق أن المشاعر والنصائح لا تأتي إلا من الصادقين الأخيار، فترحّم على أيام ذاك الزمن، من منّا ينسى أول وردة قطفها من حديقة الجيران خلسة في أيام ربيعيّة ليهديها لمعلمته الجميلة الطّيّع لها أكثر من أمّه التي أنجبته. سقى الله تلك الأيام، ولو عاد قطار العمر بنا إلى الوراء لاستوقفنا معظم النصائح التي كانت تُتلى على مسامعنا في حصص الدّرس.
اليوم وفي عيد المعلم نستذكر أرواح معلمينا الخالدين في ذاكرتنا ومنهم لا يزالون على قيد الحياة، نقف احتراماً للمعلمين لعرّابي النور، الذين يهبون كشمعةٍ مشتعلة ويروون ظمأ الفكر ويهدون كلّ تائه إلى صراط العلم وطريق الصواب، إنها رسالة مقدّسة بأيدٍ تمدّ أصابعها لتطول الصباح في ظلمة كل قلب تراه، يعصرون ماء فكرهم ليسقونا مفردات الحياة، يحدّثوننا بلا حرجٍ يستذكرون معنا أيام طفولتهم ويعلموننا حين تقرص الأذن لنتعلم أن العلم جواز سفر وهو السلاح الوحيد الذي لا يباع بل يلزم في أوقات الشدائد والمحن، فلننتبه، ولنحذر.
لا نقول معلماً إلا ويتبادر إلى ذهننا التربية والمشهد الجاد، فكيف لا ينبت من أكف المعلمين جنائن يخضورها لا يموت، كصدقةٍ جارية إلى أبد الآبدين، لذا أقول كلّ عام وكل معلم هو النور والنبراس.