الثورة – عمار النعمة:
ذات يوم حين زرت الأديب الكبير عبد اللطيف أرناؤوط في منزله بمشروع دمر، وأجريت معه حواراً لصحيفة الثورة، أخذنا الحديث يومها عن شخصيات أدبية حفرت اسمها في المشهد الثقافي، من بينهم كان عبد الوهاب البياتي الذي ألف له عبد اللطيف أرناؤوط كتاب “عبد الوهاب البياتي، رحلة الشعر والحياة”.
اليوم نعود لنذكّر بهذا الرجل الذي ضحى في سبيل آلهة الشعر، حيث لاب في دوائر التوهج والوجد وهياكل النور حتى غدا نور الشعر ومرآته. يقول أرناؤوط: كان للبياتي في كل مدن العالم بريق، وفي كل إصدار يشعل ألف ألف حريق، خلق تجربة شعرية فريدة تمتد نصف قرن وأكثر من ديوانه الأول (الملائكة والشياطين)، عابراً بشعره مساحات الاخضرار والاخضلال في ثنايا الروح العربية والإنسانية. لم يتوقف قلبه عن النبض البهي بأروع القصائد الكونية العميقة بعد أن غاص في حميم التجربة الإنسانية، فهو يؤمن مع كل قراءاته الغزيرة بأن كتاب الحياة هو أعمق كتاب، خلق أسطورته بنفسه وبنى من القصيدة وطناً في غربته.
تجلس في مهابة الصمت الصاخب الذي يتفجر معرفة وثقافة موسوعية تجلس إلى الهدوء الجميل، فيغمرك بهالة شفافة من صفائه ونقائه الروحي وحياته الداخلية المخبوءة في دهاليز العتمة والنور، معه تشعر بكثافة العمر والطيف الأدق، ثمة حلم العودة لوطنه الذي توفى دونه، أو ربما حلم انتظار المعجزة انتظار الذي يأتي ولا يأتي. وتحت عنوان “طفل الأزقة” يرى المؤلف أن الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي لم يقف به الشعر عند نقطة معينة يتحجر عندها، بل كان دائماً ممتعاً خلاقاً متطوراً، وعندما يرصد المرء تطوّر البياتي لا يستطيع أن يضعه ضمن حافتي نهر لاتساعه وتنوعه، مشيراً إلى أنه يتجدد ويتطور مع كل ديوان شعري جديد يصدر له، وليس هناك أصدق من قول الشاعر حينما يتحدث عن تجربته الشعرية وتطور حركة إبداعه عبر الزمن، فكل ما يقال عنه يبقى ناقصاً ويخضع لمزاجية وموقف القائل سلباً أو إيجاباً. منذ سني الفتوى تفتحت أمام البياتي أبواب الثقافات المتعددة، وقد عرف مكسيم غوركي وتولستوي وتشيخوف وبوشكين، ومن مبدعي الغرب عرف الكثير منهم اللورد بيرون، شيلي، كيتس، بودلير وفكتورهيجو.. ثم قرأ باهتمام الشعراء الصوفيين وغيرهم مثل: جلال الدين الرومي وعمر الخيام وطاغور، ومن المعاصرين قرأ أيضاً: نيرودا، لوركا، ناظم حكمت.
المرأة وفق رأيه رمز زمني وأبدي، رمز زمني لأنها اسم من لحم ودم، ثم تطوّر هذا الرمز لهذه المرأة، فأصبح أبدية عشتار يمتد من عشتار سومر إلى عشتروت.. ولكن حبه للمرأة في طفولته وشبابه امتزج بحبه للإنسانية والوطن والثورة، إنما البحث عن الحب الأعظم حيث كلف البياتي حياته كلها، لقد بترت ومزقت أشلاء جسده وروحه ونثرها في كل زمان ومكان.
الكلمة عند البياتي تتوهج بلمعان خلاب في قلب عالم الطبيعة الملون، حيث الربيع والعصافير ونور الشمس مقابل الظلام والجدب والموت، إنه تعبير عن الأمل الإنساني في مواجهة الموت في الحياة، بدأ عبد الوهاب البياتي شاعراً غنائياً ورومانسياً يمجد الحب وخاصة حب المرأة في ديوانه ملائكة وشياطين، إلا أنه سرعان ما تحول إلى الواقعية الجديدة كتيار حداثي نظّرت له المبادئ الماركسية وانتشر سريعاً، فكان له أتباع مريدون في أكثر أقطار العالم، والواقعية الجديدة تيار أدبي يسعى إلى كشف المعاني الاجتماعية والأيديولوجية خلال العمل الأدبي، ويطلب من الأدب أن يصف الواقع وصفاً أميناً ويفهم بيئته وأن يكون واقعياً اشتراكياً ينشد العدالة، ويندد بالاستغلال.
وقد تبنى البياتي هذا الاتجاه فخسر وظيفته في بغداد ونفي إلى خارج وطنه، غير أنه ظل أميناً لرسالة الشعر الاجتماعية في سنوات المنفى التي امتدت إلى خاتمة عمره، إذ انتقل الشاعر مقيماً في عدد من البلدان العربية وأوروبا الشرقية حتى اتخذ من مدينة دمشق مقراً لإقامته منذ عام 1991، ولم يفتر عن التماس أشكال جديدة لتجربته الشعرية في منفاه متابعاً حركة الشعر العالمي.