الثورة – حسين صقر:
في الحنيـن، لا فرق بين يومين أو عامين أو حتى عقدين، فحجم الاشتيــاق قـد يفوق فكـرة الزمن.
قالت له: أصبحت بالنسبة لي كالقهوة عند انبلاج الصبح، أشمّ رائحتها وأتلذذ بها من دون أن أعلم من قام بتحميصها وتجهيزها وطبخها، ولا حتى من يشربها، لكن كل ما أعرفه أنني أثمل على تلك الرائحة التي تُفرح القلب وتنعش الروح.
وأردفت: الحذر ثم الحذر، فأنا لا أشربها كثيراً، فقط أكتفي برشفها لمرتين متتاليتين صباحاً أو أزيدها لفنجان، وأحب أن أرى الآخرين وهم يشربونها ويطبخونها مع حبات الهيل.
قال: لا ضير، يمكن أن تتلذذي بالقهوة ورائحتها على طريقتك، فأنت القهوة وأنت تلك الرائحة، وأنت حبات الهيل وعطرها الفواح، وأنت الماء النقي الذي تُغلى به، والنار الهادئة التي تشتعل تحتها حتى تنضج، وأنت عاداتها الأصيلة وتقاليدها ومجلسها العامر بالعقل والحكمة ولحن مهباجها.
قالت: ما أجملك وأنت تعرض وتصف أدق تفاصيلها.. فقال لها: فنجاني ولم تتذوقيه، وعلى تخوم بلادك شممتيه ليتك أيتها الجميلة ارتشفتيه.. وعطر الهيل يناديكِ.. وبعد ذلك تذكر عندها عندما ارتمى فنجان القهوة من يد حسناء غربية أمام آل معلوف، وتبارى الشعراء المعالفة في وصف الحادثة.. ثم كانت الجائزة وهي ساعة يد الحسناء من نصيب “فوزي المعلوف”، وأول من وصف الموقف شاهين المعلوف فقال:
ثمل الـفـنجــــان لمـــا لامسـت شـفـتــــاه شـفـتيــها واسـتـــعـر
فتلظت من لظــــــــاه يدُهــــــا
وهو لو يدري بما يجني اعتذر
وضـعـتــه عند ذا مـن كـفــــِّها يتـلـوَّى قـلـقــــاً أنى اسـتـقــــر
فارتمى من وجـده مسـتعطفـــاً قدميهـــا وهو يبــكي فانـكســــر
وقال ميشال معلوف: عاش يهواها ولكن في هـواه وتكتـَّمْ
كلما أدنته منها لاصق الثـَّغر وتمتـمْ
دأبه التقبيـــل لا ينفـك حتى يتحـطــَّم
ثم قال شفيق معلوف:إن هوى الفنجان لا تعجب وقد خيـَّم الحزن على مبسمها
كل جزء طار من فنجــــــانها كان ذكرى قبلـةٍ من فمها
ونظر فوزي المعلوف إلى الفنجان فوجده لم ينكسر فقال:
ما هوى الفنجان مختاراً ولـــو خيـَّروه لم يفارق شفتيــها
هــــي ألـقـتـْه وذا حـظ الـذي يعتدي يوماً بتقبيلٍ عليـها
لا ولا حطـَّمه اليأس بــهــــــا هو يبكي شاكياً مـنها إليها
والذي أبقـــــــاه حيــاً ســالماً أمل العودة يوماً ليديــــها.
ونظر ميشال معلوف فرأى أن الساعة قد انتهت إلى مستحقها فوزي فقال:يا ساعةً ما أنت أول ساعة ضيعتها.. من ذكريات حيـــــاتي
ما دمتُ ضيعتُ السنين.. فما أنا بمحاسبٍ دهري على الساعاتِ..
وعندما أراد أن يطيل حديثه عن القهوة، عاد لأسطورة اكتشافها، قائلاً: في البراري وعلى صوت الناي، وهو يتنقل خلف قطعان الماعز، وإذ بأحد الرعاة ويدعى كالدي.
وحسب الأسطورة.. إن أحد رعاة الغنم، وهو شاب يُدعى كالدي، كان يرعى قطيعاً من الماعز في غابات كافا المطيرة، وارفة الظلال في إثيوبيا، ثم لاحظ أن الماعز أصبحت أكثر نشاطاً وحيوية وتكاد ترقص، عندما أكلت من شجرة “بيكسلز” وبعد بحث واستقصاء، اكتشف أن الماعز أكلت ثماراً حمراء تشبه الكرز الأحمر من الأشجار، وقرر أن يجربها بنفسه لينضم إلى الماعز الراقص.
ثم توجه كالدي من فوره إلى عمه الراهب في دير مجاور، مسروراً يكاد يطير فرحاً بهذا الاكتشاف الجديد، ثم علم أن الآثار المنبهة لحبات القهوة تقف خلف ذلك النشاط وتلك الشجرة، وقام الراهب بدوره بصنع شراب معتمداً على تلك الثمار، وهو ما أبقاه يقظاً خلال صلوات المساء الطويلة، كما تقول الأسطورة: إن الرهبان ألقوا الثمار في النار خوفاً من الأرواح الشريرة، لكن عندما تسللت رائحة القهوة المحمصة إلى أنوف الرهبان، انتابهم نفس الشعور الذي انتاب كالدي من قبل، وتراجعوا عن رأيهم بعد أن تصوروا الحماسة التي ستضفيها هذه الطاقة الجديدة على الطقوس الدينية، ومع الأيام ذاع صيت هذا النوع من الثمار بين العديد من الرهبان الآخرين وغيرهم.
وقديماً في بعض الدول، حينما كان العريس يذهب لرؤية العروس، تسارع العروس لتحضير القهوة، وإذا نال العريس إعجاب العروس، تقوم بتقديم قهوة بها سكر، وكأنها تبعث له برسالة القبول، وإذا لم ينل العريس إعجاب العروس تضع له الملح بدلاً من السكر، ليدرك أن العروس لا تريده، وبالتالي يتراجع عن طلب الزواج.
ومع الأيام أصبحت القهوة تمثل أحد المشروبات المفضلة في العالم بأسره، والتي يستمتع باحتسائها بصفة يومية الملايين من الناس لا يسبقها في ذلك، حتى أصبحت الشراب المفضل للعالم المتحضر.