الثورة – رنا بدري سلوم:
“كعادتها.. كانت قاعة المحاضرات في اتحاد الكتّاب العرّب مكتظّة بالحضور النوعيّ على مدى سنوات من متابعتي للشأن الثقافي، لم يسجّل أحدٌ الغياب.. بل على العكس هذه الأمسية كانت استثنائية، كان الاتحاد “بيتنا جميعاً”، وبحضور ضيوف المكتب الرئاسي والدبلوماسي أيضاً، أتينا لحضور شعراء أحرار أغرقتهم قضية الحرية بشلالات الحبر، فما كان منهم إلا أن تغنّوا بالثوّرة وفاضت قوافيهم، يقاومون الحرب مِلء الحناجر وينتصرون بالشّعر مِلء العيون، فشاركونا انتصارات قوافيهم وحملونا معهم على أجنحة الحنين كسنونو يصلّي العودة إلى الديار، بعد سنوات من الهجرة بحثاً عن وجه الوطن والأم وملامح الحبيبة.
فكانت فاتحة الأمسيّة الشعرية التي أقامها اتحاد الكتاب العرب بعنوان “فجر جديد” يوم أمس كختامها، نريدها ألا تنتهي ونحن العطاشى لأمر كن في إرادة الحياة، من هنا في دمشق والقلوب ترنو إليها، تأبط ستة شعراء دمشق كمصحفٍ للرجاء والدعاء.
كانت البداية حين لبّينا دعوة الاتحاد إلى الجمال الشعري، مؤكدين انتماءنا، بنون الجماعة، وألقت مسؤول النشاط الثقافي بالاتحاد الشاعرة مروة حلاوة بيان الاتحاد الثقافي:
“نلتقي اليومَ لنحتفيَ بالشِّعرِ والانتماءِ إلى هذه الأرضِ بكلِّ تنوُّعِها وعمقِها، ونفتتحُ هذه الأُمسيةَ لا كنشاطٍ عابرٍ، بل كخُطوةٍ أُولى ضمنَ رؤيةٍ جديدةٍ تُؤمِنُ أنّ الأدبَ لا يُزهِرُ إلّا بالعَدلِ والتَّنوُّعِ والانتماءِ الصادقِ إلى الناس، هذه الأمسيةُ بدايةُ الطريق نحوَ اتّحادٍ يَحتضِنُ التنوّعَ ويُكرِّمُ الإبداعَ، ويُعيدُ الأدبَ إلى مكانته في ضَمير الناس كصوتٍ للحياةِ”.
لا بدايات إلا للشّعر
مع صوت شاعري اعتدنا حضوره الرّهيف، قُدمت الأمسية، الشّاعر توفيق أحمد استطاع بوقت قصير أن يثني على ومضة الحرف، ويؤكد لنا دهشة الصورة ومشهديتها وجماليّتها وانزياحاتها اللغوية أثناء تقديم كل شاعر له خصوصيته في طرح فكرته بأسلوبه الشاعري العمودي أو النثريّ.
بداية تألّق الشّاعر إبراهيم جعفر في الولوج بعالم الشعر الساحر بصوره الشاعرية الوجدانية، فبنى على الشطآن مملكته الشعرية إنه أول عاشق في الحرب، ويتساءل عن الغاردينيا التي عروقها ذبلت فما عادت تذكره.. فهو لا يطيق العيش في وطنه بلا وطن.. فكتب:
حياتي واحتضاراتي سواء بريءٌ
والضحايا الأبرياء
فلو كنتُ الكليم لماد طورٌ
ولو كنتَ المسيح لجفّ ماء
ككلّ الأنبياء تناهشتني
يدٌ يحنو عليها الأنبياءّ
ولدتُ وفي يدي للناس ضوءٌ
ينجيهمُ فأنكرني الضّياءُ.
أما الشّاعر الذي وصل إلى مرحلة النصف نهائية بمسابقة أمير الشعراء محمد زياد شودب فقد روّس ورقته الشاعريّة، وكأنه يؤكد لكل موعود بالحريّة أنّنا سنعود وإن تأخّرنا فكتب “عشت سنوات الحرب والتهجير كلها في سوريا، وعندما تحررت البلد كنت في أبو ظبي، فكتبت هذا النص إهداء لكل السوريين الذين يحفظون طريق العودة جيداً”، وهذه بعض أبيات من قصيدة “العائد”:
متى يا طريق الموتِ ألقى سواحلي وأنس وينساني جحيم سلاسلي؟
متى تهدأ الرّيح التي في صفيرها هوَت كلُّ أغصاني وماتت بلابلي؟
دمُ الحرب مسكون ٌبألفِ قصيدةٍ فمن وابل أعمى نمر لوابلِ
أنا صنو هذا البحر أجهل شاطئي
وأجهلُ عنواني وفحوى رسائلي..
عزفٌ بالكلمات
من ماء الفرات العذب نمت أزاهير الإبداع، وصورة الأوجاع فأجاد الشاعر زياد الشملان في نصوصه رسم الشهادة وتأكيد المواطنة ولم ينسَ فلسطين تلك المرأة الثكّلى، فكانت أبجديّته كملح على جروح خيباتنا وطوفان قوافيه المتمردة على الموت ومفرداته، مبقياً لنا في نهاية شعره الشجيّ.. سؤالاً.. كيف الفجر أحضنه؟
وبحضوره اللافت قدم الشاعر خليل الأسود تعريفاً بنفسه بأنه ابن الماء، وعشيقته دمشق، فكان قاسيون شاهداً على عشقه، فقرأ قصيدة “في مهب العجاج” ومنها:
لم تسعني على اتساع مزاجي فسحة الحلم في خيال الفجاجِ
قلتُ للطين في فرات اليتامى خانكَ الماء فاغتسل بالعجاجِ
ظامئاً كنتَ حين زفّت سمائي نطفة الخلق في ضمير خَرَاجي
فيما أطلت ابنة بردى بشموخ دمشق الشاعرة والفنانة التشكيلية بسمة شيخو تلقي قصائد قد فتحت الباب لها بعد أن كتبتها بين عام ٢٠١٥ و٢٠١٨، ففاضت بحب دمشق وكتبت بماء الورد لغتها الأنثوية وحضورها الآسر، حملت هموم بلادها أيام الثورة:
سمعت أغنية “زينوا المرجة” فبكيت..
الحياة هشة.. هنا المآذن
أعناق المدينة المدمرة..
أنادي في الليل دمشق..
لا اسم لدي إلا دمشق.
وألقت قصيدة “آخر سكان دمشق” تقول فيها:
أقرع أجراس كنائسها..
أيام الآحاد ..
وأرفع الأذان عند كل مئذنة
وختمت بقصيدة “سنكون بخير”، وكأنها تعلن الحرية لقوافيها بعد أن كانت حبيسة الأدراج والديجور.
انعتاق وحرية
وختم المهرجان الشاعر خالد المحيميد الذي حمل نهر العاصي بقوافيه ببلاد المهجر في مهرجان اسطنبول للشعر العربي، وبحسب تصريحه لـ”الثورة”: إنها الأمسية الأولى في دمشق بعد فراق أربعة عشرعاماً أثناء الثورة، الشاعر يختم بقصيدة “قوافل الشمس” التي تنبض بيقين النصر وبقصيدة أخرى موجهة لابنة الماء والسماء حماة.. فقال بمتفرقات شعره:
أبشر بعزك
حل الصبح يا بلدي
ما عاد لليل كرسيّ إلى الأبد
حتّى الجوازُ الذي ما كانَ يُوصِلُنا
إلى المطاراتِ
صارَ اليومَ ذا مَدَدِ.
“كانت سوريا تغرق بالظلام ويعيش أبناؤها التهجير والدمار، ونحن اليوم نعيد ترتيب المشهد الثقافي، فدعونا شعراء أحراراً لبوا النداء، تابعناهم عن كثب أيام الثورة، واليوم سيكون لهم مستقبل ثقافي بعد هذه الأمسية الشعرية المتميزة”.. وفقاً لما صرحه رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور محمد طه العثمان لصحيفة الثورة، مؤكداً أن الاتحاد يعملُ على أن تَصلَ النَّشاطاتُ الثقافيّةُ إلى كامل الجغرافيا السّوريّة، ويده ممدودة لكل من يريد بناء سوريا الجديدة، والباب مفتوح أمامَ الصوت الحقيقي، فكانت أمسية استثنائيّة.. يتنفّس فيها الشّعر الصعداء نحو الانعتاق والحريّة