الثورة – غصون سليمان:
يشكل التراث الشعبي بما ينطوي عليه من أبعاد اجتماعية وثقافية وسياسية دوراً كبير الأهمية في تعميق عمليات التواصل بين مكونات المجتمع الواحد، كونه يسهم في ترسيخ أنماط من العلاقات الاجتماعية بين هذه المكونات تأخذ شكل النسيج الاجتماعي الذي تتحقق من خلاله أقصى مستويات المنفعة، في الوقت الذي تتضاءل فيه مستويات التنافر والتباعد.
وبالتالي على قدر ما يتوغل نسيج العلاقات الاجتماعية في الوعي الاجتماعي، على قدر ما تتحقق في الواقع وحدة الجماعة بكل مكوناتها مع تقدير الخصوصيات التي تميز جميع هذه المكونات عن بعضها البعض.
أستاذ قسم علم الاجتماع جامعة دمشق الدكتور أحمد الأصفر، يرى في بحثه حول هذا الموضوع أن التراث ونسيج التفاعل الاجتماعي يعتمد على حقيقة أن كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية يحمل في ثناياه أشكالاً مختلفة من التنوع بين مكونات عدة تؤلف في مجملها البناء الاجتماعي العام، وتعد تصنيفات المكان من أكثر هذه المكونات وضوحاً على مستوى الواقع الحياتي لكل مجتمع، فما من مكان تستقر فيه جماعة من الناس ويتبادل أبناؤها المنافع مع بعضهم إلا ويمكن توصيف مكونات المكان بين الشمال والجنوب، والشرق والغرب، فيقال شمال القرية وجنوبها، وغربها، وشرقها، ويمتد الأمر ذاته إلى المدينة الأكبر والإقليم وحتى إلى الدولة ومجموعة الدول.
مرتبطة بالأصول الاجتماعية
ويضيف الدكتور الأصفر أنه يمكن أن تأتي مكونات المجتمع ذات طبيعة خاصة مرتبطة بالأصول الاجتماعية للسكان، فيتم توصيف هذه المكونات على أساس القبائل أو العشائر المنتشرة فيه أو على أساس الانتماءات الإثنية أو الدينية أو المذهبية وغيرها، لافتاً إلى أنه ما من تنظيم اجتماعي إلا ويحمل في ثناياه أشكالاً مختلفة من التنوع الاجتماعي الذي يأخذ طبيعته بحكم الخصوصيات الثقافية والتاريخية والحضارية التي عرفها في تجربته التاريخية الخاصة به والتي تميزه عن المجتمعات الأخرى، وربما تكون بذات المكونات أو بمكونات اجتماعية أخرى مختلفة عن سابقتها.
ويبين كيف تميل التنوعات الاجتماعية على اختلاف أشكالها نحو المحافظة على ذاتها من خلال توثيق الروابط بين مكوناتها الذاتية كأن يترابط أبناء القبيلة الواحدة مع بعضهم، أو أبناء الانتماء الواحد مع بعضهم أيضاً، ما يعني أن العيش المشترك للمكونات المتنوعة يدفع بها إلى الترابط فيما بينها ما يعمق عمليات التواصل التي من شأنها أن تحقق تبادل المنافع بشكل أفضل وتقلل من حدة التناقضات التي يمكن أن تنشأ نتيجة الفهم المغلوط للمصالح المشتركة.
وتتجلى عمليات التواصل بين فئات المجتمع الواحد وميلها إلى الاستفادة من بعضها بما يفيد المجتمع في كليته من التراث الشعبي الذي يحمل في مضامينه معالم هوية كل مكون بذاته.
بالإضافة إلى القواعد الاجتماعية والمبادئ الثقافية التي تحدث أوجه العلاقات التي يقيمها مع المكونات الأخرى فتسعى القبيلة على سبيل المثال لا الحصر إلى المحافظة على ذاتها من خلال سعيها للمحافظة على أبنائها من جهة، ومن خلال القواعد الاجتماعية والمبادئ الثقافية التي تحدد أشكال تفاعلها مع القبائل الأخرى.
وحول تنظيم القواعد الاجتماعية والمبادئ الثقافية التي تحدد أشكال التواصل بين أفراد النوع الواحد وآليات التفاعل مع المكونات الأخرى.. يشير الدكتور الأصفر إلى أنه ضمن التنظيم الاجتماعي هناك مسارات واضحة المعالم بين ما هو مسموح به وما هو ممنوع مع هذا المكون أو ذاك، وما هو مرغوب فيه وما هو مرفوض مع فئة أخرى أو مكون آخر من مكونات المجتمع، لافتاً إلى أن تداخل المسارات مع بعضها البعض يصبح النمط السلوكي الواحد متاحاً بين أفراد النموذج الاجتماعي الواحد، وغير متاح مع تكوين اجتماعي آخر.
فما هو متاح للفرد أن يمارسه مع أبناء قبيلته وقريته، قد لا يكون مرغوباً فيه مع شريحة أخرى أو العكس، ما يجعل هذه المسارات المتداخلة مع بعضها خاضعة لتنظيم اجتماعي شديد التعقيد أشبه ما تكون بالنسيج الاجتماعي الذي يبدو وكأنه عشوائياً في أشكاله الظاهرة، ولكنه منتظم بدقة بالغة في مضامينه.
فالتراث الشعبي لكل جماعة يحمل في مضامينه برأي البحث الاجتماعي القواعد الناظمة للعلاقات الاجتماعية بين أفراد الجماعة نفسها، والتي تؤدي وظيفة حيوية في تأكيد هوية الجماعة وخصوصياتها الثقافية والتاريخية، في الوقت الذي يحمل هذا التراث القواعد التي تحدد أشكال التفاعل الاجتماعي للجماعة نفسها مع الجماعات الأخرى ضمن المجتمع الواحد أو المجتمعات الأخرى.
فالعادات الاجتماعية والتقاليد والقيم والاتجاهات وكل ما فيه تراث غير مادي يؤدي وظيفتين، تتعزز من خلال الأولى هوية الجماعة وخصوصياتها الثقافية والتاريخية والاجتماعية وتوثق من خلال الثانية روابطها الاجتماعية مع الجماعات الأخرى في المجتمع، أو مع المكونات الأخرى في التنظيم الاجتماعي الكلي وتأخذ القواعد
الناظمة للعادات والتقاليد والقيم وجميع أشكال التراث غير المادي موقعها في الوعي الاجتماعي وهذه تعد بمثابة الناظم الخفي لحياة الجماعة مع ذاتها ومع غيرها.
العقل الجمعي
فالتراث الشعبي لكل جماعة بما يحمله من قواعد تنظيميه وعادات وتقاليد وقيم وأفكار- وفق توصيف أستاذ قسم علم الاجتماع، يعد بمثابة العقل الجمعي الذي يتجلى في وعي أفراد الجماعة بحسب مستويات إدراكهم لهويتهم الذاتية ولطبيعة العلاقات التي يقيمونها مع الجماعات الأخرى، وذلك على قدر إدراك أفراد الجماعة الواحدة لهويتهم الذاتية ولطبيعة العلاقات التي يقومون بها مع الجماعات الأخرى على قدر ما تنتظم حياتهم في إطار المجتمع الأكبر الذي ينتمون إليه، وعلى قدر غياب الوعي بتراثهم الشعبي، وعلى قدر غياب الوعي بطبيعة النسيج الاجتماعي الذي يحدد علاقاتهم مع بعضهم من جهة ومع مكونات المجتمع الأخرى من جهة ثانية، على قدر ما تظهر ملامح الاضطراب في الأنماط السلوكية التي يمارسونها في حياتهم الاجتماعية وعلى قدر ما تظهر ملامح الخلل في روابطهم مع الآخرين.
ولهذه الأسباب مجتمعة اتجهت أنظار من شاركوا في الحرب على سوريا منذ بداياتها نحو تفكيك نسيج العلاقات الاجتماعية السائدة والذي عززته مظاهر التراث اللامادي من عادات وتقاليد وقيم واتجاهات جعلت من المجتمع السوري كلاً متكاملاً خلال فترات طويله من الزمن.
تعزيز أوجه الترابط
وهذه التوجهات، بناء على ما تقدم جاءت من الاعتقاد بأن ما ينتهى إليه المجتمع السوري من تعاضد بين فئاته وما يحمله التراث الثقافي والاجتماعي يعزز أوجه الترابط بين مكوناته، يعد عاملاً أساسياً من العوامل التي تحول باستمرار من دون تنفيذ المشاريع الغربية في المنطقة العربية، مما يجعل حل الروابط الاجتماعية مدخلاً أساسياً لتفكيك المجتمع ووسيلة قوية من وسائل السيطرة عليه، وما عمليات التوظيف السياسي للتراث عامة والتراث الإسلامي خاصة والتي جاءت في سياق الحرب على سوريا إلا محاولة تهدف من حيث النتيجة إلى إعادة بناء مكونات المجتمع السوري على نحو يناقض بعضها بعضاً.
إن الدراسات التراثية وفق هذا التصور ليست مجرد دراسة للماضي، وإنما هي دراسة للحاضر، ودراسة لكيفية التفاعل مع المستقبل أيضاً، وإذا كانت حروب الجيل الرابع التي تعتمدها بعض الدول القوية مع خصومها في الوقت الراهن والتي تم العمل بها في سوريا خلال سنوات الحرب السابقة، مبنية في أساسها على فلسفة الاستفادة من الدراسات التراثية في حروب المستقبل، فمن الأولى أن تكون هذه الدراسات بمثابة الأساس الفكري لمسارات التنمية وكيفية التعامل معها في المستقبل بالنسبة للبلدان النامية بصورة عامة.