الثورة – إيمان زرزور:
في كل موسم حج، تتجلى القيم الإسلامية في أبهى صورها، ليس فقط من خلال أداء المناسك، بل في الرسائل الإنسانية العميقة التي يحملها هذا التجمع الإيماني العالمي، واحدة من أسمى تلك الرسائل هي العناية الخاصة التي تُمنح للمتضررين من ويلات الحروب، الذين يأتون إلى بيت الله مثقلين بجراحهم، جسدياً ونفسياً، ليجدوا في رحاب مكة ملاذاً من الألم، وبوابة إلى الإيمان والصبر والتكافل.
في سوريا الحرة، وفي بادرة من رئاسة الجمهورية العربية السورية، كان لمصابي الحرب مرتبة مرموقة وتكريم لمواقفهم وجراحهم التي تحملوها لتكون شهادة فخر على تضحياتهم في سبيل الوصول إلى حرية وخلاص الشعب السوري، وجاء تكريم مصابي الحرب في موسم الحج لهذا العام في إيفاد عدد كبير منهم لإداء مناسك الحج على نفقة الدولة، على أن يتكرر هذا المشهد خلال السنوات القادمة.
هؤلاء القادمون من خطوط النار والمنافي، بعضهم فقد أطرافه، وآخرون أرهقتهم جراح لم تُشف، يرفعون أصواتهم بالتلبية رغم وطأة الوجع، ويُجسدون معنى الطهارة من الأحزان وهم يطوفون بقلوب ملؤها الرجاء. لقطات لحجاج على كراسٍ متحركة أو جنود يقفون بجراحهم على صعيد عرفات، وأطفال يطوفون وقد حملوا فقدانهم مبكراً، تختزل وجع البشرية، لكنها تُعلن في الوقت ذاته انتصار الإنسان على الانكسار.
كان قال الدكتور فايز مطر، رئيس مجموعة أصحاب الهمم للحجاج السوريين، في تصريح صحفي، إن الإصابات بين الحجاج شملت حالات حرجة ومعقدة، منها 8 حالات فقد بصر كلي، و7 حالات بتر مزدوج للساقين، و11 حالة فقدان عين واحدة، إضافة إلى 18 حالة بتر طرف علوي، و42 حالة بتر طرف سفلي فوق الركبة، و55 حالة بتر تحت الركبة، إلى جانب 25 إصابة بشلل شقي، و25 إصابة متنوعة، فيما سجلت حالة واحدة لحروق كاملة بالجسم.
وحول عملية اختيار المستفيدين من المنحة، قال إنها جرت من خلال لجنة مختصة ركزت على الجرحى الذين أصيبوا خلال السنوات الأخيرة نتيجة الحرب، خصوصاً أولئك الذين شاركوا في عمليات التحرير، مع تخصيص نسبة محدودة للإصابات القديمة، موضحاً أنه جرى اختيار الأسماء عبر قرعة علنية شملت جميع المناطق السورية، وتحت إشراف مباشر من لجان متخصصة، لضمان العدالة والشفافية.
استجابة لهذه الحاجة، تولي المملكة العربية السعودية اهتماماً بالغاً لهذه الفئة، عبر تجهيز بعثات طبية متخصصة، ومرافقة شخصية، وتوفير معدات مساعدة ومسارات مهيأة داخل الحرم تسهل أداء المناسك. كما شُيّدت مرافق إقامة مجهزة بالكامل تراعي احتياجاتهم، إلى جانب توفير دعم نفسي ومعنوي يعزز من شعورهم بالكرامة والانتماء.
لكن هذا الاهتمام، وإن كان بالغ الأهمية خلال موسم الحج، يجب ألا يبقى محصوراً في لحظات موسمية، بل يتحول إلى نهج دائم يضمن للمصابين حياة كريمة. وتكريمهم لا ينبغي أن يقتصر على التعاطف، بل يتطلب توفير فرص عمل تتوافق مع قدراتهم، والاستفادة من خبراتهم المهنية والعلمية، ما يعزز اندماجهم في المجتمع ويكسر دوائر العجز والتهميش.
ما يقدمه الحج للمصابين من رعاية وتجهيز ليس تنظيماً لوجستياً فقط، بل تجسيد لمبدأ الرحمة التي لا تُقيد بانتماء أو حدود. إنها دعوة مفتوحة لتوسيع دوائر العناية لتشملهم في كل لحظة من حياتهم، في منازلهم، مدارسهم، أماكن عملهم. هؤلاء ليسوا مجرد جرحى، بل أبطال يستحقون الإنصاف، وقصصهم تضيء الطريق لمن أراد أن يفهم كيف تنتصر الروح على الجراح.