الثورة :
قال فضل عبد الغني مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، إن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أيار 2025 عن تخفيف العقوبات الأميركية على سوريا يشكّل أحد أبرز التحولات في السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة، ويمثّل انتقالاً نوعياً من سياسة العزلة الصارمة إلى نهج مدروس لإعادة دمج سوريا في النظام الدولي، مع ما يحمله من فرص اقتصادية وتحديات قانونية وتنفيذية عميقة الأثر.
وفي مقال نشره عبد الغني عبر موقع “الجزيرة نت”، أوضح أن الخطوة جاءت في إطار الترخيص العام رقم 25 الصادر عن وزارة الخزانة الأميركية، إلى جانب إعفاء مؤقت لمدة 180 يوماً من قبل وزارة الخارجية بموجب قانون قيصر، وهو ما يعدّ تحولاً جوهرياً في أدوات الضغط التي مارستها واشنطن على دمشق على مدى أكثر من أربعة عقود.
وأشار إلى أن نظام العقوبات الأميركية على سوريا تطور على مراحل، بدأت بتصنيف سوريا دولة راعية للإرهاب عام 1979، على خلفية مواقفها من الصراع العربي الإسرائيلي، ودعمها لفصائل فلسطينية ولبنانية معارضة، وامتد لاحقاً إلى حزم متصاعدة من العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية شملت حظراً شبه كامل على التبادلات المالية والتجارية، خاصة مع دخول قانون “محاسبة سوريا” حيز التنفيذ عام 2004، وبلوغه ذروته بعد الثورة السورية في 2011، مع فرض حظر شامل استهدف مؤسسات الدولة والقطاع النفطي والمصرفي.
وأضاف أن العقوبات تصاعدت بعد 2011 عبر الأوامر التنفيذية الصادرة عن إدارة الرئيس باراك أوباما، قبل أن تُستكمل بقانون “قيصر” في عهد الرئيس ترامب عام 2020، والذي وسّع نطاق العقوبات ليشمل داعمين أجانب للنظام السوري، وهو ما ساهم في ترسيخ عزلة مالية شبه مطلقة لسوريا، وأدى إلى تفاقم الأزمات المعيشية وتعقيد جهود الإغاثة والإعمار.
واعتبر عبد الغني أن إعلان ترامب في قمة مجلس التعاون الخليجي بالرياض عن نيته “وقف العقوبات لمنح سوريا فرصة للتقدم” شكّل مفاجأة سياسية، حيث لم يكن ذلك مدرجًا ضمن التوجهات الأميركية المعلنة سابقًا.
إلا أن ما تبعه من إجراءات، كتفعيل الترخيص العام رقم 25، مثّل تحولًا ملموساً، إذ سمح بإجراء تعاملات مالية كانت محظورة، بما في ذلك تصدير الخدمات المصرفية والاستثمار في قطاعات أساسية كالنفط والطاقة، وتسهيل نشاطات المؤسسات الحكومية السورية بقيادة الرئيس أحمد الشرع.
وتضمن الترخيص الجديد استثناءات صريحة تتعلق بإيران وروسيا وكوريا الشمالية، مع الحفاظ على إدراج مئات الأفراد والكيانات ضمن قائمة العقوبات، ما يعكس محاولات دقيقة للفصل بين دعم الاقتصاد السوري من جهة، ومنع استفادة الحلفاء التقليديين للنظام من جهة أخرى.
وأوضح عبد الغني أن هذا التخفيف الواسع جاء مشروطاً بمتطلبات سياسية تتعلق بحماية الأقليات، ورفض إيواء المنظمات الإرهابية، وفرض رقابة على أداء الحكومة السورية الجديدة. وأشار إلى أن وزارة الخزانة الأميركية أبقت على إمكانية إعادة تفعيل العقوبات في حال الإخلال بتلك الشروط، ما يعكس طبيعة السياسة الأميركية الجديدة القائمة على “المشاركة المشروطة”.
كما لفت إلى أن الإعفاء من بعض بنود قانون قيصر ما يزال مؤقتاً ومحدوداً بفترة 180 يوماً، وأن رفعه الدائم يحتاج إلى تدخل تشريعي من الكونغرس، وهي عملية سياسية معقدة قد لا تتحقق بسهولة، رغم وجود دعم محدود لها في دوائر الإدارة الأميركية.
وفي جانب متصل، أشار عبد الغني إلى أن قرار رفع العقوبات فتح الباب أمام إعادة تفعيل قنوات التمويل الرسمية، وعودة التعامل بين البنوك السورية والبنوك العالمية، لا سيما بعد إعفاء شبكة إنفاذ الجرائم المالية (FinCEN) المصرف التجاري السوري من قيود قائمة منذ عام 2006، الأمر الذي من شأنه تسهيل عمليات الدفع والتحويلات وتخفيف الاعتماد على القنوات غير الرسمية.
ورأى أن هذه الانفراجة الاقتصادية قد تُسهم في حل أزمة السيولة التي أثقلت الاقتصاد السوري، وتمكين الحكومة من إعادة تشغيل أنظمة الرواتب والخدمات العامة، إلى جانب فتح المجال لاستثمارات واسعة النطاق في قطاعي الطاقة والبنية التحتية، شرط أن تُستكمل بخطوات إصلاحية جادة في القطاع المصرفي وتحديث السياسات النقدية، مثل نقل عقود طباعة العملة من روسيا إلى شركاء جدد أكثر قبولًا دوليًا.
وفي المقابل، حذّر عبد الغني من تعقيدات لا تزال قائمة على مستوى الرقابة على الصادرات، خاصة تلك التي تشمل التكنولوجيا والمواد مزدوجة الاستخدام، والتي لا يغطيها الترخيص الجديد، ما قد يضع عراقيل إضافية أمام شركات ترغب في العمل في سوريا، ويُلقي بعبء قانوني على الجهات التنفيذية في ضبط التوازن بين التسهيلات المالية والتقييدات التقنية.
واعتبر أن تخفيف العقوبات جاء في سياق استراتيجي أوسع، يستهدف إعادة تموضع الولايات المتحدة في ملفات إعادة الإعمار في الشرق الأوسط، ومنافسة نفوذ روسيا وإيران والصين، مع الحفاظ على أدوات ضغط مستقبلية عبر إمكانية إعادة العقوبات عند الحاجة، مشيراً إلى أن هذا النموذج الأميركي يسعى إلى الجمع بين الأدوات الاقتصادية والسياسية في إدارة العلاقات مع الأنظمة الخارجة من النزاعات.
وختم عبد الغني مقاله بالتأكيد على أن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا يشكّل فرصة نادرة لإنعاش الاقتصاد السوري، لكنّه في الوقت ذاته اختبار حقيقي لقدرة الحكومة الجديدة على الالتزام بالشروط الدولية، وبناء شراكات قائمة على الشفافية، وإعادة الثقة بالنظام المالي السوري. ورأى أن الطريق نحو تطبيع اقتصادي شامل لا يزال طويلًا، ويتطلب توافقاً داخلياً وخارجياً متيناً، وإصلاحات عميقة في مؤسسات الدولة.