الأوقاف الإسلامية.. آلة مالية ذكية لإعمار المستقبل  ما تحتاجه سوريا اليوم خريطة وقفية اقتصادية  

هني الحمدان  

في زمن تتعاظم فيه التحديات الاقتصادية وتتشابك فيه خيوط الفقر والنزوح وتآكل البنى التحتية في سورية، يبرز الوقف الإسلامي من جديد، لا كمجرد نظام ديني تاريخي، بل كأداة مالية واجتماعية أثبتت فعاليتها على مر القرون، وقادرة اليوم على أن تكون في صميم أي خطة وطنية للتنمية وإعادة الإعمار.

فإذا كانت خطط المانحين الدوليين تقوم على القروض والمساعدات المشروطة، فإن الوقف يقدم نموذجاً قائماً على الاكتفاء الذاتي والتكافل المجتمعي والاستثمار طويل الأجل، يجمع بين الروح والقيمة الاقتصادية.

من تراث العمارة إلى عقل الاقتصاد

الوقف، في جوهره، هو تحييد أصل مالي من التداول التجاري المباشر وتحويل عائداته لخدمة منفعة عامة. لكن هذا التعريف البسيط يخفي وراءه واحدة من أعقد النماذج المالية التي عرفها التاريخ الإسلامي، والتي جمعت بين التمويل، والإدارة، والتنمية المجتمعية، في إطار قانوني يضمن الاستدامة والتنوع.

في مدن الشام ومصر والمغرب وتركيا، كانت الأسواق والمدارس والمستشفيات وحتى شبكات المياه تُبنى وتُدار من خلال الأوقاف. لم يكن هناك فصل بين الاقتصاد والخدمة العامة؛ بل كان الربح يُعاد ضخه في الدورة الاقتصادية للمجتمع.

وعلى سبيل المثال، حين خصّص أحد كبار التجار في حلب في القرن السادس عشر خانًا تجاريًا كوقف، اشترط في وثيقة وقفه أن تُستثمر عوائده في فتح مدرسة صناعية لتعليم الحرف اليدوية لأبناء الفقراء، وربط ذلك بتقديم وجبة يومية للطلبة، وتمويل صيانة الطرق المؤدية إلى سوق المدينة. لم يكن هذا الفعل عملاً خيرياً فحسب، بل مشروع اقتصادي وتنموي متكامل.

عقلية الوقف .. منظومة تشاركية لا مركزية

ما يجعل الوقف نموذجاً متميزاً هو أنه يقوم على مفهوم “التمويل التشاركي المجتمعي”، حيث لا تحتكر الدولة أو النخب وحدها موارد الإنتاج. بل يُتاح لكل فرد، غنياً أو متوسطاً، أن يكون مساهماً في بناء وطنه من خلال المساهمة في أصل وقفي، ولو جزئياً.

هذه السمة التشاركية تظهر اليوم في نماذج الوقف الرقمي، والتي استطاعت جذب عشرات آلاف المستثمرين الصغار عبر منصات مثل “WaqfChain” و”EndowTech” التي تمكّن أي شخص من شراء سهم وقفي بقيمة تبدأ من 5 دولارات، مع تقارير لحظية حول العوائد والأثر الاجتماعي.

في بيئة مثل سورية، حيث تنتشر الجاليات السورية في عشرات الدول، يمكن لهذه النماذج أن تكون حلقة الوصل بين الداخل والخارج. فبدلًا من تحويلات فردية قد تستهلكها الحاجات اليومية، يمكن جمع تلك الأموال في صناديق وقفية استثمارية تعيد توظيفها في مشاريع إنتاجية دائمة الأثر.

من البنى الحجرية إلى الحاضنات الرقمية

لقد كان من أبرز تحولات الأوقاف في العصر الحديث انتقالها من تمويل الأبنية الحجرية (كالمدارس والمساجد والمشافي) إلى تمويل الحقول الرقمية، مثل: الحاضنات التقنية، المدارس الافتراضية، ومراكز الابتكار الصناعي.

في تركيا، مول وقف تابع لجامعة إسطنبول مركزًا للأبحاث الطبية العصبية، يضم أكثر من 70 باحثاً. في ماليزيا، أُنشئ وقف “AI for Humanity” لتمويل تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي لصالح تطبيقات الرعاية الصحية في القرى النائية.

أما في تونس، فقد أُعيد إحياء سوق أثري ليكون مقراً لحاضنة شركات ناشئة في الصناعات الإبداعية، بتمويل من وقف جمع بين مالكي العقار والبلدية والقطاع الخاص، بشروط تنموية واضحة.

لقد تطوّر مفهوم الوقف الإسلامي من كونه حجرًا منقوشًا على باب مسجد، إلى أن أصبح خوارزمية رقمية تُمكن الفرد من أن يساهم في بناء حضارة عبر نقرة واحدة. هذا التحول لم يكن مجرد تطور تقني، بل هو انتقال استراتيجي في فهم الاقتصاد الإسلامي المعاصر، الذي بات يرى في الوقف منصة ديناميكية يمكن تكييفها مع اقتصاد المعرفة، والاقتصاد الأخضر، واقتصاد المنصات الرقمية..حسب رأي الخبير الاقتصادي محمد السلوم.

اليوم، لم يعد الوقف محصوراً في العقارات أو الأراضي، بل توسّع ليشمل المعرفة والبيانات والملكية الفكرية. ففي بعض المدن، نجد وقفاً رقمياً لتمويل البحث في الذكاء الاصطناعي الأخلاقي، وفي أخرى نرى منصات تعليمية مدعومة بريع وقفيات افتراضية تتيح للطلاب المتفوقين في مناطق الأزمات الالتحاق بجامعات عالمية عن بعد.

أما الشركات الناشئة حسب الخبير السلوم ، فقد باتت تجد في الأوقاف التقنية فرص تمويل تشاركي مستدامة تبتعد عن ضغط الاستثمارات الربحية قصيرة الأجل. وظهرت نماذج حديثة مثل “الوقف المشترك”، حيث تجتمع أوقاف من دول متعددة في منصة واحدة لتمويل مشروع تنموي، أو “الوقف الموجه” الذي يتيح للمتبرع تحديد مجالات صرف ريعه بدقة، كأن يوجهه لتمويل العلاج بالخلايا الجذعية أو دعم تقنيات إعادة تدوير المياه في المناطق الجافة.

هذا كله يُعيد طرح سؤال محوري: هل يمكن لسوريا – في ظل ظروفها الصعبة – أن تصبح مختبرًا عالميًا لإعادة إطلاق الوقف الإسلامي ضمن منظومة الاقتصاد المقاوم؟ الجواب ليس نظريًا. فواقع البلاد، وإن بدا مثقلًا بالدمار، إلا أنه غني بالفرص الوقفية. الحارات القديمة، الأسواق المتضررة، البيوت المهجورة، والمزارع المهملة، يمكن أن تتحول إلى أصول وقفية مولدة للدخل والخدمات، إذا ما تم التعامل معها بعقلية اقتصادية متطورة، تستفيد من الخبرات العالمية وتُوظف الطاقات المحلية.

الأوقاف التنموية في مواجهة فوضى الإغاثة

من أبرز أوجه القصور في مسار الإعمار القائم على المساعدات، هو طبيعته قصيرة الأجل، المشروطة، وغياب أدوات الاستدامة. في المقابل، تقدم الأوقاف التنموية بديلًا أكثر فاعلية، يقوم على ثلاثة محاور:

المشاريع الإنتاجية الوقفية: تحويل أبنية غير مستثمرة إلى ورشات حرفية، مزارع حضرية، أو معامل صغيرة، بإدارة المجتمع المحلي وتمويل ذاتي.

الأوقاف الاحتياطية: كما كانت خانات الحبوب في حلب تؤدي دوراً شبيهاً بالصناديق السيادية، يمكن اليوم إنشاء “صندوق وقفي غذائي” لتخزين سلع استراتيجية تُباع في المواسم وتُوزع عند الأزمات.

التعليم المهني الوقفي: بإنشاء مراكز تدريب تقني ممولة من عوائد أوقاف متخصصة، تُمنح شهادات تؤهل الشباب للعمل في الداخل أو الخارج، بما يسهم في تعزيز رأس المال البشري.

رقمنة الوقف .. عودة بروح المستقبل

لقد تغير العالم، لكن مبادئ الوقف لم تفقد جدواها. بل العكس، يمكن لتقنيات مثل البلوك تشين والذكاء الاصطناعي أن تعيد للوقف بريقه، عبر:

الحوكمة الرقمية: تقنيات العقود الذكية لضمان صرف عائدات الوقف وفق شروط الواقف.

تحليل العوائد بالمؤشرات الذكية: استخدام الذكاء الاصطناعي لتوقع العوائد من عقارات أو أسهم وقفية، وتوجيهها إلى القطاعات الأكثر احتياجاً.

منصات التفاعل المجتمعي: تُمكّن المساهمين من متابعة أداء الوقف، تقديم اقتراحات، بل والتصويت على أولويات الصرف، مما يحقق أعلى درجات الشفافية والمساءلة.

 

الأوقاف في سورية: خطة إعمار وطنية بأدوات ذاتية

إن ما تحتاجه سوريا اليوم ليس مجرد موازنات إنقاذ، ولا خططاً إغاثية مؤقتة، بل خريطة وقفية اقتصادية تمتد من أقصى الشمال إلى الساحل، ومن البادية إلى الريف الخصيب، تستعيد منطق العصور الذهبية، حين كان الوقف يُخطط له كرافعة اقتصادية واجتماعية طويلة الأمد.

في كل حي سوري تقريباً، توجد أرض مهملة، أو بناء متهالك، أو سوق تجاري فقد دوره. هذه ليست عوائق، بل فرص ذهبية لإنشاء أوقاف إنتاجية: ورشات مهنية، مزارع عضوية، مدارس مهارات، مستوصفات رقمية، ومراكز بيانات. واللافت أن تكاليف تحويل هذه الأصول إلى أوقاف مستدامة أقل بكثير من تكاليف إنشاء مشاريع جديدة من الصفر.

بلغة الاقتصاد، الوقف هو الاستثمار الأقل مخاطرة والأكثر مردودية حين تُدار أصوله بكفاءة. بلغة التنمية، هو الضمان الاجتماعي الذاتي الذي لا يُربك الموازنات الحكومية. وبلغة الثقافة، هو الذاكرة الحية التي تعيد للناس ثقتهم بأنفسهم وهويتهم.

إن تشكيل “خريطة وقفية سورية” ينبغي ألا يكون مشروعاً نخبوياً تحت سقف المؤتمرات، بل يكون مشروعاً شعبياً تشاركياً، تبدأ نواته من لجان الأحياء، والبلديات، والغرف الاقتصادية، وحتى الجاليات السورية في الخارج. ومن الممكن اليوم أن يُصمم تطبيق إلكتروني وطني يُتيح لأي مواطن أن يقترح أصلًا قابلاً للوقف، أو يشارك في تمويل وقفية، أو يراقب أداءها المالي والاجتماعي بشفافية

لا تحتاج سورية إلى خطة مارشال جديدة تملى بشروط سياسية، بل تحتاج إلى “خطة وقف وطنية” تُبنى على الثقة بالناس، واستنهاض طاقاتهم المالية والمعنوية.

مقترحات عملية قابلة للتطبيق:

إطلاق صندوق وقفي لإعادة الإعمار: تُحوّل إليه أراضٍ حكومية غير مستثمرة، ويُموّل من اشتراكات المغتربين السوريين، لاستثمارها في مشاريع سكنية وإنتاجية، مع ضمان العوائد وفق ماتقدم به الخبير السلوم.

وقف المهارات والكفاءات: يُموّل عقود توظيف عن بُعد لخبراء سوريين بالخارج، ضمن مشاريع تقنية أو استشارية محلية.

الصندوق الوقفي للمستشفيات الريفية: يدير شبكة من الوحدات الصحية المتنقلة، بتمويل من عوائد عقارات وقفية.

أوقاف الطاقة المتجددة: تمويل محطات شمسية صغيرة فوق أسطح الأبنية الوقفية، وبيع الفائض لشبكة الكهرباء، واستثمار العائدات في مشاريع تعليمية.

سجل وقفي وطني إلكتروني: يربط كافة الأوقاف بقاعدة بيانات مركزية، تُمكّن من تتبع الأداء، وتمنع التعدي على الأصول.

من الحكمة إلى الحركة:

حين نُطلق العنان للوقف الإسلامي، فإننا لا نُحيي نظاماً قديماً، بل نُفعّل نظاماً لم يمت قط. نظام قادر على التمويل الذاتي، والتوزيع العادل، والنمو المستدام. هو أشبه بشجرة زيتون زرعها الأجداد على سفح الجولان، قد تجف سنوات لكنها لا تموت، وما إن تسقها حكمة التخطيط وسخاء النية حتى تعود إلى الإثمار.

الوقفيات ليست ملفات أرشيفية ولا حجارة أثرية، بل هي أدوات دقيقة لبناء المستقبل. والمطلوب اليوم هو أن نستعيد عقلية الوقف كمؤسسة لا كصدقة، كمشروع تنموي لا كرمز ديني فقط، وكاستثمار وطني طويل الأمد لا كعمل خيري طارئ.

إن ما تحتاجه سوريا – في ظل ما تمر به من أزمات اقتصادية ومعيشية ومؤسسية – هو استنهاض روح الوقف، بأسلوب جديد، وأدوات جديدة، ولكن بقيم أصيلة، تعيد إلينا الإيمان بأن ما بُني بالإيمان والوعي، لا يمكن أن يهدمه الخراب مهما طال.

وفي هذا الإطار، أدعو كخبير اقتصادي، وأحد أبناء الريف السوري، إلى إطلاق “المبادرة الوطنية للوقف التنموي”، تجمع المختصين وأصحاب الأصول والأفكار والنية الطيبة، وتكون نواة لانبعاث اقتصادي سوري جديد، نبدأ به من وقف صغير.. إلى نهضة كبيرة.

إلى ما بعد الوقف.. نموذج حضاري لا ينضب:

الوقف في جوهره ليس مؤسسة مالية فقط، بل مشروع حضاري. لقد أسهم في بناء أعرق الجامعات، وأطول قنوات المياه، وأدق المدارس الطبية، وأشمل المكتبات، وأرحب الخانات، في وقت لم تكن فيه الدول تعرف مفهوم “الإنفاق التنموي” أو “الرؤية الاقتصادية”.

الجامع الأموي في دمشق لا يزال حتى اليوم يموّل نفسه من ريع أسواقه، كما فعل منذ قرون. وقف “الزيتونة” في تونس لا يزال ينتج علماء إلى الآن. في إسطنبول، لا تزال العيادات الوقفية تداوي الفقراء. هذه ليست بقايا تاريخ، بل هي دلائل حية على أن الوقف هو النموذج الوحيد الذي نجح في الجمع بين الديمومة والعدالة، بين الربح والرحمة، بين الهوية والعولمة.

إن العودة إلى الوقف، ليست استدعاء لماضٍ جميل، بل هي تحريك لعجلة مستقبل واقعي، يمكن من خلاله بناء سوريا الحديثة من الداخل، وبدون قروض مسمومة أو إملاءات سياسية.

من هو المستفيد؟

الوقف ليس للماضي، ولا هو صدقة محدودة الأثر. هو مشروع أمة، ينقلنا من منطق المعونة إلى منطق التمكين، ومن انتظار الحلول من الخارج، إلى ابتكارها من الداخل.

كل سوري يمكن أن يكون مساهماً في إعمار وطنه من خلال الوقف، سواء كان ذلك بسهم صغير، بفكرة جديدة، أو بجهد إداري.

إن تجربة الوقف ليست مجرد بديل تمويلي، بل رؤية متكاملة لبناء دولة عادلة، تنموية، تشاركية، تمتد جذورها في عمق التاريخ، لكن عيونها على المستقبل.

“في يدنا اليوم فرصة لا تُقدّر بثمن: أن نعيد اكتشاف عبقرية الوقف، لا لنبكي على أطلاله، بل لنُشيد به مستقبل سورية.. لبنة لبنة.”

آخر الأخبار
تسويق  14 ألف طن قمح في حمص تحضيرات امتحانات المحاسبين على طاولة "المالية" " صناعة حسياء " تصدر 46 قراراً صناعياً منذ بداية العام  الدفاع المدني يزرع قيم التطوع في نفوس الأطفال من بوابة الفن   الهيئة العامة للطيران المدني تنفي إغلاق مطار دمشق وتؤكد استمرار العمل دون عوائق  استرداد أكثر من 16 طن كابلات مسروقة بدير الزور القنيطرة.. تدريب النساء على تربية النحل والنباتات الطبية والعطرية  بعد المنحة التشجيعية زاد استلام القمح..  3400 طن قمح في مراكز دير الزور    علي خامنئي… مرشد الثورة وباني إمبراطورية الظل الإيرانية انطلاق امتحانات الفصل الأول في معاهد جامعة الفرات  هجمات جديدة.. ترامب يهدد وخامنئي يرفض الاستسلام ويتوعد إنتاج وفير لمشمش غوطة دمشق الشرقية  بين ضعف التسويق وانعدام التصدير   من الحرب الى التحدي الرقمي .. لماذا لاتصل التكنولوجيا الى السوريين؟  سوريا في قلب التأثيرات الاقتصادية. تضخم وازمة توريدات مخاوف من استمرار الحرب الإيرانية- الإسرائيلية... الأوقاف الإسلامية.. آلة مالية ذكية لإعمار المستقبل  ما تحتاجه سوريا اليوم خريطة وقفية اقتصادية   جديد الاقتصاد.. مديرية التقانة والتحول الرقمي تعزيزاً للاقتصاد..إقرار نظام جديد للاستثمار في المدن الصناعية نقل دائرة السجل المدني من جرمانا يفاقم معاناة الأهالي  The National Interest:  دول الشمال العالمي  مسؤولة عن نصف إجمالي الانبعاثات الكربونية  سوريا تختار الحياد.. التركيز على الشأن الداخلي وتعزيز الحضور الدولي