الثورة – أحمد صلال- باريس:
قبل شهر، استشهدت المصورة الصحفية الغزاوية فاطمة حسونة تحت قصف إسرائيلي. صوّرتها سبيده فارسي ببراعة في فيلم وثائقي نابض بالحياة، وقد ترك عرضه في مهرجان كان حزنا عميقا في قلوبنا.
صباح الخميس 15 مايو/أيار، في هذه السينما البعيدة عن قصر المهرجانات وسجادته الحمراء، كانت سبيده فارسي ترفع قبضتها ووجهها يذرف الدموع. القاعة مكتظة، والمناديل والكوفيات مرفوعة.
منظمو “أسيد”، الذين لا يجذب اختيارهم الدقيق والمتطلب للأفلام حشودا دائما، مندهشون بعض الشيء من الاهتمام المشترك للصحافة والجمهور بفيلم المخرجة الإيرانية الوثائقي.
(ضع روحك على يدك وامشِ). فيلمٌ يأسرك ويلتصق بك، لا يفلت منك أبدا، يحفر أخدوده المتناقض المصنوع من الموت والنور معًا.
فيلمٌ نراه الآن كسجلٍّ لموتٍ مُتوقع منذ أن علمت سبيده فارسي، يوم الأربعاء 16 أبريل/نيسان، بوفاة بطلته: فاطمة حسونة، المصورة الصحفية الغزاوية ذات الخمسة والعشرين عاما، التي كانت تُصوّر ظهوراتها العجيبة بهاتفها المحمول لمدة عام. قُتلت الشابة بصاروخ إسرائيلي مع جميع أفراد عائلتها. لم ينجُ منها سوى والدتها.
تتشابك الكلمات بين النحيب والغضب: “أنا سعيدة وحزينة للغاية لمشاركة هذه الصور معكم. كان ينبغي أن تكون هنا…” في اليوم السابق، قرأت سبيده فارسي تقريرا صادرا عن “فورنسيك أركيتكتشر”، وهي مجموعة بحثية بريطانية متعددة التخصصات يقودها الإسرائيلي إيال وايزمان، وتُجري تحقيقات في حالات عنف الدولة وانتهاكات حقوق الإنسان حول العالم.
يُخلص هذا التقرير، المُدين، حول وفاة فاطمة حسونة إلى أن الشابة استُهدفت عمدا بالصاروخ الإسرائيلي الذي قتلها.
تصرّ المخرجة الإيرانية، التي نفيت منذ أربعين عاما، على أن “اغتيالها لم يكن مروعا فحسب، بل كان مُستهدفا”.
“لقد شوّه هذا الهجوم المستمر على غزة إنسانيتنا. قُتلت فاطمة لكنها لم تُهزم، وسنضمن ألا تذهب هدرا. يومًا ما، سنرى فلسطين حرة. أما الآن، فأرجو أن تحملوا ابتسامتها معكم…”
تلك الابتسامة الجميلة. سريعا، لا نرى سوى وجهها، وديعا أو متباهيا، حسب ما إذا كانت تتحدث عن أحلامها – زيارة روما، قضاء يوم في مدينة ملاهي، أكل الدجاج – أو عن المعاناة، وسقوط القنابل، وموت الجيران، والبطون الخاوية. لم تلتقِ فاطمة وسبيده قط في الحياة الواقعية. غادرت سبيده فارسي إلى القاهرة بعد بدء الحرب للقاء لاجئين فلسطينيين، وبحثت عبثا عن طريق إلى غزة حتى أخبرها أحدهم عن مصورة شابة من حي التفاح، شمال شرق مدينة غزة.
ومن خلال المكالمات الهاتفية التي كانت تتقطع باستمرار بسبب خلل في الاتصال، نشأت صداقة بين المنفية الفارسي البالغة من العمر 60 عاماً والمرأة الفلسطينية الشابة المحاصرة في الفخ.
أتصل بفاطمة، آملاً أن تُجيب، ثم تصرخ فرحاً عندما يظهر وجهها العصري مدونا أخيراً على الشاشة، ثم عادت إلى الألم عندما انقطع الاتصال، ومرة أخرى، لم تُجب على المكالمة. من خلال هذه الأداة الجذرية، التي تتمثل في تصوير المحادثات الهاتفية، وهي الرابط الوحيد الممكن مع غزة، يُبدع الفيلم الوثائقي في جعلنا نشعر بالإحباط والعجز.نرتجف مع المخرجة، التي نرى وجهها القلق ينعكس على شاشة الهاتف، ونقفز معها عندما تسقط قذيفة قرب مبنى فاطمة. وفي تناقض صارخ مع الرابطة الهشة والحميمة التي تتشكل تدريجياً بين المرأتين، هناك انعكاس لصور القنوات التلفزيونية، سي إن إن، والجزيرة، وبي إف إم تي في، التي تُحصي أعداد القتلى المدنيين الفلسطينيين يوميا. حياة متجسدة، مجسدة بروح نابضة بالحياة، في مواجهة غموض التقارير المُخدرة والإحصاءات المروعة الأخرى.
بين الحين والآخر، يُطلّ إخوة فاطمة برؤوسهم داخل الإطار، متشوّقين لرؤية شكل هذه “المرأة الأجنبية”، التي تروي لها أختهم حياتها اليومية وسط الأنقاض. لم تغادر فاطمة ولا إخوتها غزة قط. سبيده فارسي، حبيسة الداخل، بينما على الجانب الآخر من الخط، في فرنسا الهادئة، حبيسة الخارج، بلا أمل في العودة إلى إيران. ومثل فاطمة الشجاعة،رغم خطورة “توثيق” واقع الاحتلال الإسرائيلي وعنفه غير المسبوق بالصور، صمّمت المخرجة على ذلك، و تظهر بين الحين والآخر خلال الحوار مما يزيد من حدة الانفعال العاطفي.
آخر محادثة، في أبريل الماضي: أخبرت سبيده فارسي الشابة أن الفيلم قد اختير لمهرجان كان السينمائي. في الليلة التالية، حوّل صاروخ فرحتها إلى رماد. من هذا الفيلم الوثائقي، الذي تتناسب قوته عكسيا مع ميزانيته المتفرقة، نخرج بقلوب محطمة. متشبثين طويلًا بابتسامة فاطمة حسونة.