الثورة- أحمد صلال -باريس:
هناك رحلاتٌ لا مثيل لها، فيلم “على الطريق إلى الأب”، أول فيلم روائي طويل للمخرجين أوليفييه داكور ونبيل أيتاكوالي، ليس رحلةً جغرافيةً بسيطة، بل هو حلقةٌ حميمةٌ ومؤثرة، تكاد تكون علاجية.
يُسلّط الفيلم الضوء على نوعٍ مألوفٍ من الأفلام – أفلام الطريق – ليستطلع بشكلٍ أفضل التوترات الدفينة داخل عائلةٍ فرنسيةٍ مغربية، بين الماضي المكبوت والهوية المُعاد تشكيلها.
الفكرة بسيطة، تكاد تكون بريئة، يوافق مهندسٌ معماريٌ ناجح، على مضضٍ نوعاً ما، على توصيل والدته إلى المغرب، الفكرة هي إعادة سيارة رينو 21 نيفادا القديمة لوالده المتوفى لحضور حفل زفافٍ عائليٍ في البلد.
يستعد كامل لقضاء إجازة، فيجد نفسه مضطراً لتغيير خططه في اللحظة الأخيرة والتوجه إلى”بليد” مع والدته، على متن سيارة رينو 21 القديمة، تبدأ رحلة طويلة لكامل وعائلته، في طريقه إلى ماضيه، تطفو الذكريات والمشاعر السلبية على السطح، كاشفةً عن جمال الروابط التي تجمعهم.
لكن وراء هذه الحجة اللوجستية، تختبئ ذريعة درامية أكثر كثافة، على متن السفينة، تتكشف أحداث عائلة بأكملها: الأم، وربة الأسرة، واعية بقدر ما هي مزعجة، وشريك البطل، ومؤلف ناجح، ومراهقان يتنقلان بين ثقافتين لا يفهمانهما جيداً لكنهما يتحملانهما تماماً.
منذ المشاهد الأولى، يتخذ الفيلم خيارا حاسما، خيار الإطار الضيّق، ومساحة المركبة المغلقة كمسرحٍ رئيسي. وهكذا يصبح الطريق امتداداً لما لم يُقال، وللأحقاد، ولكن أيضاً للذكريات، تلتقط الكاميرا، دون أن تغرق في جمالٍ مُفرط، التوترات بدقة، غالباً في لحظات الصمت أكثر من الحوار.
لا يسعى هذا الإنتاج إلى التألق، لكنه يجد دقةً معينةً في تفاصيل الحياة اليومية، الشطيرة رديئة الصنع، وواقي الشّمس المُركّب بمنديل، والجدالات عبر الراديو، والألعاب السخيفة لتمضية الوقت على الطريق السريع. ترسم هذه التفاصيل التي تبدو بريئةً صورةً صادقةً لما تعيشه الكثير من العائلات خلال هذه الهجرات الصيفية إلى المغرب العربي.
ثمة جانبٌ من الحقيقة لا تتناوله سوى قلة من الأفلام مباشرةً، وخاصةً في فرنسا.
يُركّز الفيلم بإسهاب على شخصيّة الأب، كامل، الذي تُجسّد مسيرته المهنية شكلاً من أشكال النجاح الاجتماعي الذي غالباً ما يرتبط بتباعدٍ عاطفي عن خلفيته.
يعيش المهندس المعماري في منزلٍ برجوازي، ويتحدث الفرنسية بلكنةٍ بسيطة، ويُظهر فخرا كبيرا بـ”نجاحه”. لكن الرحلة ستُكسِر هذه الواجهة تدريجياً، مع اقتراب السيارة من الجنوب، يتصدع هيكل الشخصية، تنجرف المحادثات البريئة نحو أسئلة الهوية والندم والجروح القديمة، يُعالج هذا الانزلاق التدريجي نحو الدراما برصانة، دون عاطفةٍ مُصطنعة، غالباً ما تبدو الحوارات صادقة، وأحياناً مُبالغ فيها بعض الشيء، لكنها ليست ضرورية أبداً.
إنها تكشف الكثير عن توترٍ مشتركٍ بين العديد من الأشخاص من أصول مهاجرة، كيف يُوازن المرء بين الاندماج والولاء لجذوره؟ ما الذي يجب أن يُورثه لأبنائه بعد قطع صلته بهم؟
تطغى هذه الأسئلة على الفيلم بأكمله دون أن تتحول إلى خطاب، يكمن أحد نجاحات الفيلم في اختيار الممثلين، يُفاجئ رضوان بوغربة، في دوره الرئيسي، الجمهور بدورٍ يخالف المألوف، فبعيداً عن شخصيّاته الكوميدية المعتادة، يُجسّد دور أبٍ مُضطرب، مُمزق بين واجبه الأبوي ورفضه الصامت، يتجنّب أداؤه الكليشيهات، مُجددا النبرة المناسبة في مشاهد المواجهة وفي اللحظات الأكثر رقة، إلى جانبه، تُبرز فريدة أوشاني حضوراً قوياً، حيث تُجسّد دور الأم بدقة نادرة، جامعةً بين الحنان والسلطة والوضوح، شخصيتها، التي غالباً ما تُختزل إلى نموذجٍ أصلي في أفلام أخرى، تزداد عمقاً هنا.
ليست الضحية ولا الشخصية المقدسة، بل امرأة بتناقضاتها وصراحتها وصمتها الثقيل، يلعب المراهقون بنزاهة، دون مبالغة.
لا يمنحهم الفيلم دائماً المساحة التي يستحقونها، لكن وجهات نظرهم الخارجية حول توترات الوالدين تُضفي بُعداً شيقاً على المشاهدة لا سيما في المشاهد التي يتساءلون فيها دون فهم حقيقي لما يوقظونه.
يتميز فيلم “على الطريق إلى الأب” بترسيخ قصته في واقع نادراً ما يُعرض على الشاشات الفرنسية، مع جعل قضاياه في متناول جمهور واسع، إذا تحدثنا هنا عن الهجرة والتراث ونقل الثقافة، فإن هذه المواضيع تُعالج بطريقة مجسّدة، لا نظريّة.
تكمن قوة الفيلم تحديداً في أسلوبه في العرض لا في الشرح، فنحن لا نركّز على الخطابات، بل نراقب الإيماءات والنظرات وردود الفعل.
وهنا تكمن قوة السينما، في الضمني، والمُوحى به، والمُكبوت، العبّارة، والمحطّات، وقصر الحمراء، والحرارة، والغبار، كل شيء يُسهم في خلق جوّ فريد، يُساعد على إعادة اكتشاف الذات.
حتى لو يندرج الفيلم ضمن فئة الكوميديا الدراميّة، فإنه لا يسعى إلى إضحاك الناس مهما كان الثمن، الفكاهة مُشتتة، وغالباً ما ترتبط بمواقف يوميّة أو بعلاقات مُحرجة.
إنها تُتيح لنا فرصةً للتنفس، وخلق لحظات إنسانيّة بين مشاهد أكثر كثافةً عاطفياً.
يحافظ الفيلم على توازنه بشكل عام، يتجنب الفيلم المؤثرات البصرية البسيطة، حتى وإن كانت بعض المشاهد أقرب إلى الطابع التقليدي.
نشعر برغبة صادقة في الحديث عن تعقيد العلاقات الأسرية، دون إصدار أحكام عليها. إنه ليس فيلماً يسعى إلى غلق باب النقاشات، بل إلى فتحها. في سياق يُستغل فيه تعدد الهويات أو يُصوّر بشكل ساخر.
ينحاز فيلم “على الطريق إلى الأب” إلى التفاصيل الدقيقة، يقدم الفيلم قصة متواضعة، لكنها صادقة، ترتكز على تجربة يتشاركها العديد من الفرنسيين من أصول مهاجرة، بهذا المعنى، يُسهم الفيلم إسهاما قيّما في بناء السينما الفرنسية، التي غالباً ما تُبالغ في الحذر في تناول هذه القضايا.
إنه لا يُحدث ثورة في هذا النوع السينمائي، ولا يسعى لإرضاء الجمهور مهما كلف الأمر، لكنه يُقدم منظوراً، وصوتاً، ونوعاً من الإنصات، وأحياناً، هذا كل ما نتوقعه من فيلم، أن ينظر إلى الناس، لا كأشخاص اجتماعيين، بل ككائنات في رحلة.